Monday, June 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة : القوالب

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/القوالب/

نحيلة، ذات بشرة بيضاء وظهر محني، شعرها الناعم الطويل يصل حتى خصرها، ترتدي تنورة طويلة باهتة الألوان كشحوب وجهها، تنتعل صندلاً جلدياً كلاسيكياً أشبه بنعول القرون الأولى الميلادية.

تلك هي الصورة المثالية لزوجة القسيس المباركة أنقلها لكم من أرشيف ذكريات طفولتي، وهي صورة لا تقتصر على الصفات الخارجية إنما تحمل دلالات عميقة، فالكتفين المحنيين نأى بكاهلهما إرهاق الخدمة، والوجه الشاحب محروم من غذاء صحي متكامل خاصة اللحوم باهظة الثمن، والثياب البسيطة تعكس بساطة العيش الزاهد لربة منزل الراعي.

في أرشيف طفولتي وصباي ذكرى أخرى ولكنها من مقاعد الدراسة ويشاركني بها كل سوري وسورية ألفت عيناه عنواناً متكررا في مناهج التربية العسكرية "المواصفات الفنية والتعبوية للبارودة التشيكية" وهي دراسة في سلاح مصنوع في تشيكوسلوفاكيا (السابقة) يصف بارودة طويلة رأيناها بأم أعيننا حيث كانت من وسائل الإيضاح النادرة المتاحة في مدارسنا آنذاك لتساعدنا على فهم الخصائص الخارجية للبارودة (الصفات الفنية) كالوزن والطول وعدد القطع وطريقة الفك والتركيب إضافة إلى الاستخدامات العملية (الصفات التعبوية) والمدى الأقصى والمدى المجدي للطلقة.

لو طبقنا منطق دراسة البارودة التشيكية على زوجة القسيس لوجدنا أن الأخيرة أيضا لها مواصفات فنية وتعبوية. فالصفات المذكورة أعلاه هي جزء من قالب نضعها فيه (مواصفاتها الفنية) لكنه ليس القالب كاملا فالجزء المتبقي هو مهمات زوجة القسيس (المواصفات التعبوية) أو ما يطلق عليه بالانجليزية في عصرنا هذا job description  وهو يتضمن قيادتها لأهم اجتماعين في الكنيسة: اجتماع السيدات ومدرسة الأحد، حيث يمكن التساهل في ألا تكون هي by default القائد الأول لكلا الاجتماعين وقبول عضويتها الفعالة في كلتا اللجنتين كبديل.

أما عظة يوم الأحد (صباحاً ومساءً) فهي من مهامها أيضاً، لا لأنها ستلقي بالعظة بنفسها فهذه مهمة القسيس ولكن زوجته الصالحة يتوجب عليها الجلوس في الصفوف الأمامية على مسافة تسمح له برؤية تعبيرات وجهها بكل وضوح لتتمكن من ممارسة فن التحكم عن بعد دون الحاجة إلى بطاريات في جهاز الريموت، فقد يستدعي الأمر تدخلها لإرسال رسائل عبر الشيفرة السرية عندما ترى حالة طوارئ "الوعظة طويلة"، "النكتة بايخة"، "كرافتتك مايلة"، "اشرب بؤ مية" وإلى ما هنالك من تصحيحات وتعديلات وتدخلات في مهام زوجها ترسلها له عبر ذبذبات قد يكون أو لا يكون هو الوحيد القادر على ترجمتها وفهمها والانصياع لها في الحال.

لا حاجة لك عزيزي القارئ لأن ترجع إلى تاريخ الكنيسة الإنجيلية بدمشق لتتعرف إلى أسماء القسوس الذين توالوا على رعايتها فأنا لا أعني زوجة قسيس معينة في مدينة أو كنيسة على وجه التحديد فمدينة دمشق كانت تحوي كنائس أخرى لثلاث طوائف إنجيلية غير مشيخية إضافة إلى الكم الهائل من السفريات والمؤتمرات التي يمكن لحفيدة قسيس وابنة أم خادمة وأب شيخ أن تحظى بها لتتعرف إلى كم قسوس وزوجات قسوس من شتى الأصقاع والأطياف.

صور وقوالب قد تبدو كوميدية لكن نتائج عيشها كارثية. فزوجة القسيس المسكينة تعاني من القوالب التي تضعها الناس فيها، فلو فصّلت نفسها على مقاس القالب ستختنق ولو رفضت القالب وكانت "حقيقية" سيختنق شعب الكنيسة في رحلة طويلة من سلسلة توقعات وإحباطات وملامة وتقصير وانتقاد ورثاء للنفس ورغبة في تغيير الراعي (مع إن هو كويس بس مراته بتحط مناكير على صوابع رجليها) وكأننا في حالة فصام ما بين حياتنا خارج الكنيسة ومناداتنا بحقوق المرأة وبثورة في المفاهيم المجتمعية، وما بين حياتنا داخل الكنيسة وإنكارنا لأدنى حقوق زوجة القسيس في أن تكون نفسها فنتعامى عن حاجتنا إلى ثورة ضد مفاهيم بالية عفى عليها الزمن في عصر وحقبة تاريخية بات من البديهي فيها، على سبيل المثال لا الحصر، أن تعمل المرأة خارج المنزل وبالتالي أن تعمل زوجة القسيس خارج الكنيسة.

كي لا أكون مجحفة بحق الكثير من الكنائس وتجنباً لوقوعي في فخ التعميم وجب الاعتراف بأن كنائس مصر وعلى الأخص كنائس المدن الكبرى تتقبل بل وتفتخر بزوجات قسوسهم إذا كن عاملات، فمنهن الدكتورة والصيدلانية والمهندسة والمدرسة والمحامية والموظفة في دوائر حكومية وهذا مدعاة للفخر لكنه في عام 2015 ليس كافياً برأيي. أين زوجة القسيس الكاتبة والأديبة ذات الإصدارات الدورية والعمود الأسبوعي في الصحف، أين زوجة القسيس الباحثة الاجتماعية والعاملة في مؤسسات المجتمع المدني ومنظماته غير الحكومية، أين زوجة القسيس الطالبة التي تكمل دراساتها العليا في الماجستير والدكتوراه بدعم وتشجيع من زوجها وكنيستها، أين زوجة القسيس الفنانة والرسامة بمعارضها و إبداعاتها، أين زوجة القسيس الموسيقية المحترفة وعازفة الأوركسترا...

آن الأوان أن نقف وقفة صدق مع أنفسنا ونتحدى قوالبنا التي فرضناها على الآخرين ووضعناهم داخلها أو انتقدناهم لعدم عيشهم وفقها، عندئذ يمكننا أن نتحاجج ونتحاور فنتغيرعن قوالبنا بتجديد أذهاننا فكنائسنا بحاجة لأن تختبر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة في كل ركن فيها بما في ذلك نظرتنا وتوقعاتنا من زوجات رعاتنا.



بدون تعليق: هل تعلم ما هو الرمز المطبوع على هذا الدبوس؟ لو أجبت بلا: مبروك فأنت من جيل الشباب والتكنلوجيا. لو أجبت بنعم: مبروك فأنت من جيل الشعر الشائب والشباب الذي تجاوز عمره الثلاثين ربيعاً

جميع الحقوق محفوظة لمدونة رهاميات