Saturday, August 6, 2016

مذكرات زوجة قسيس شابة: المواجهة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/المواجهة/

وتواجهنا... أخيراً... بعد سنوات طِوال كنتُ خلالها أسمع عنه وعن بشاعته وقسوته، ولكنني رغم ذلك كنت ألتقيه من بعيد وأتابع أجندة مواعيده المفعمة بأسماء من مختلف الأعمار ومن شتى أصقاع العالم، إلى أن التقيته للمرة الأولى عام 1992 يطرق الباب برفقة فريق عمل يشبه طاقم الطائرة الذي يتذيل القبطان. ينهي عمله باستعجالٍ ويرحل تاركاً أعضاء فريقه ليمكث بعضهم إلى الأبد مع أهل وأصدقاء صاحب الزيارة، فزياراته تترك ندباً كالوشم لا يزيلها الزمن مهما طال.

لقاؤنا الأول خلا من المواجهة، فأنا لم أودّع جدي لأبي لأن أهلي قرروا اصطحاب أخواي وأختي معهم من العاصمة دمشق إلى القرية دوني حيث مكثت عند أهل أمي. كانت حجة أهلي أنني صغيرة في السن، وربما كنت كذلك بأعوامي الثلاثة عشر، لكن المقياس نفسه لم ينطبق على بنات عمي اللواتي تصغرنني ببضعة أشهر  أو بضع سنوات فقد حضرن هن جنازة جدنا وكنّ في كنف الأسرة في تلك الساعات الأولى من خبرة جديدة حلّت بنا لأُستثنى أنا وحدي منها.

ومنذ ذلك الحين توالت اللقاءات التي أتذكرها حيث خلت كلها من المواجهات. تجنّبُ المواجهات جاء طوعاً تارة وطوراً قسراً لأن أحدهم قرر عدم إخباري تحت ملاءة مبررات شملَت الغربة أو السفر أو السن أو بُعد المسافة أو عدم ملاءمة الظروف والكثير الكثير من الاحتياطات التي لم يكن لي يدٌ بها حتى وإن اختلفتُ في الرأي مع صاحب القرار، إلا أن النتيجة كانت واحدة.

كنت من الأطفال القلائل المحظوظين الذين ولدوا في حضن أربعة أجداد ولكنني ترعرت في مناخ أسرة اتخذَت قرارات بالنيابة عني كانت نتيجتها أني حُرمت من وداع أيّ من أجدادي الأربعة. أكثرها إيلاماً كان حرماني من حضور جنازة جدي لأمي، القس مطانس جرجور، ليمرّ اثنا عشر عاماً فأحضر احتفال وداع القس منيس عبد النور، ذلك العملاق الذي كنت أرى فيه انعكاساً لشخصية جدي وخدمته مع اختلاف حجم الكنائس ومواقعها الجغرافية  ما بين سوريا ومصر، إلا أن عمالقة الإيمان لا يقاس إكمالهم لسعيهم وحفظهم لإيمانهم  بأعداد أعضاء كنائسهم، لأن حساباتهم البنكية الحقيقية في مدى إتمامهم للدعوة الفريدة التي أخذوها من الرب يسوع خلال سنوات رحلة رعوية وكرازية مباركة تكللت بالانتقال إلى حضن الآب وتوثيق ذلك الوداع باحتفال جنائزي مهيب. لم يتم نقل جنازة جدي عبر الفضائيات المسيحية سنة 2003 على الهواء مباشرة من قرية الحفر في ريف محافظة حمص كي أحضرها وأنا في بيروت ولم يتم حتى تسجيلها على شريط فيديو لكنني عندما تابعت جنازة القسيس منيس وأنا في الاسكندرية أجهشت بالبكاء وكأنني أحضر ذلك الحفل الذي حرمت منه فأعوض ما فاتني من ترانيم وما ابتلعته من دموع وما اجتررته من سيناريوهات بديلة.

 توالت اللقاءات، القريبة والبعيدة، بيني وبين الموت في كل مرة كان هو على موعد مع أحد ما من دائرة معارفي الصغيرة أو الأوسع إلى أن جاء اليوم الذي تواجهنا فيه. حصلَت المواجهة عندما كان هو على موعد مع طفل لم يكمل عامه السادس ولست أدري لماذا شاءت الحكمة الإلهية أن أكون أنا ثالث من حاول "كنسلة" هذا الموعد بعد زوجة القسيس التي رأته وانتشلته من الماء وزوجة القسيس التي أمسكَته منها لتمدده على الأرض وأبدأ أنا محاولات إسعاف لم أدرِ وقتها أنها كانت عقيمة.

تواجهنا في ظروف قد تبدو رومانسية من حيث المكان: حول حوض السباحة ومن حيث الزمان: عصر يوم صيفي مشمس. لكننا عندما تواجهنا لم يكن هو يرتدي ثياباً تليق بالزمان أو المكان، فأنا وإن لم أكن أرتدي زياً مناسباً للسباحة إلا أنني اخترت ليومي هذا أجمل فساتيني بلونه الرمادي الفاتح تتوزع بين ثنياته ورود صفراء وبيضاء تتراقص فوق ذيول قماش فستاني الطويل الخفيف. أما هو فقد كان مخلصاً كالعادة في اكتساء حلّة بشاعته كاملة، وقد كان أكثر سواداً هذه المرة لأنه كان قريباً جداً مني لدرجة المواجهة مما عنى أنني تلامست مع جرعة قبحه كاملة أثناء محاولاتي المستميتة لتذكر وتطبيق خطوات التنفس الاصطناعي لطفل تم انتشاله من الماء للتو.

لن أنسى ما حييت جسده الأسمر الصغير، وجمال وجهه الذي كنت أراه لأول مرة دون نظارته المعتادة، ولمعان شعره المبتل، وملمس شفتيه وأنا أضغط عليهما بشفتيّ لأنتقل إلى الضغط على صدره الذي فارقته الأنفاس وقد أصابني الخرس وبات لساني يصرخ كلمة واحدة يعيدها مراراً وتكراراً بمرارة وذعر وتضرع لم أشهده في حياتي قط: "يا يسوع... يا يسوع... يا يسوع". أذكر أنني رفعت رأسي برهة من الزمن لأصرخ بملء رئتي: "الحقونا". فلَمَس أيٌّ كان من سمع زأيري أو رآني أن الخطر رهيب وأحسست بتسارع مفاجئ في الحركة من حولي بينما عدتُ أنا لإكمال ما بدا روتيناً عقيماً من خطوات الإسعاف وصرخات الاستغاثة بواهب الحياة التي أرعبني مجرد احتمال أن تفارق هذا الطفل البديع. دبّت الرعشة في كامل جسدي الجاثي على بلاط حمام السباحة لكنني تمالكت نفسي لإكمال ما استمر بضع دقائق شعرت أنها دهور، وفجأة رأيت يد رجل تمتد لتستلم عني مهام الإسعاف وأنسحب أنا فتخونني ركبتاي ولا أرى جدوى من النهوض فأجد نفسي ساجدة على مسافة من الحدث أستند على مرفقيّ، تحتك جبهتي بالأرض وأنا أتضرع وأصرخ: "يايسوع... يايسوع". تختلط دموعي بطبقة رقيقة من الطين تغطي جوانب حمام السباحة وأعود بذاكرتي إلى صيف عام 2012.

كانت ابنتي ذات الشهور التسعة تشارك صديقها الجديد ألعابها. كان هو يكبرها ببضعة أشهر تزين وجهه نظارة صغيرة وابتسامة في وسع الكون، إذ أن فراشات الربيع تتنافس لتجاري روعة ابتسامات الأطفال في سنواتهم الأولى. كان هو قد بدأ يمشي منذ أشهر قلائل فيغادر الملعب الصغير الذي أعددته لابنتي وهي تجلس على بطانيتها تحيط بها ألعابها كي أتمكن أنا من سماع العظات ويزورها صديقها الصغير كلما شاء، يمشي بخطواته متعثرا ثم يختار أن يجلس بجانبها، يحملقان أحدهما بالآخر، يبتسمان، يختاران نفس اللعبة، يتشاجران، ثم يعودان إلى اللعب معاً من جديد.

ازداد عدد المتوافدين مع ارتفاع أصوات العويل وخشيت أنا أن تضيع صلاتي الخرساء في محيط من الصلوات التي كنت أسمعها وأحتار كيف تتمالك زوجات القسوس من حولي أنفسهن لتخرج من أنفاسهن صلوات ناضجة بلغت من الروعة والعمق أقصاهما لأبحث في فمي عن مثيلة لها ولا أجد إلا نفس الكلمة فأكمل بكائي ونحيبي وتضرعي: "يا يسوع... يايسوع... يا يسوع".

جمعتني بأمه قواسم مشتركة أهمها أننا زوجات قسوس، كنا نتشارك خبرات وبركات ومصاعب الخدمة لتقول كل منا للأخرى ملخص تلك المشاركات "انتِ مش لوحدِك"، لكنني أجلس اليوم وقد استسلمت لواقع أنها هي اليوم وحدها، هي وحدها في عين الإعصار، كل من شاهد أو سمع عن الحادث لم يترك أهل الفقيد وحدهم لحظة واحدة إلا ورفعهم في صلاة سرية أو علنية، لكنهم فعلياً وحدهم أمام هذا المصاب الجلل الذي عجزَت ألسنتنا معه عن إيجاد كلام تعزية بشري فحوّلنا أعيننا إلى ذاك الذي هو نصيب قسمتنا وقابض قرعتنا، لأنه هو وحده القادر حقاً، وليس نحن، أن يقول لكل من الأم والأب والإخوة: "انتَ مش لوحدك".

يتسارع لهاثي ويتعالى صوت الطنين في أذنيّ فأتمنى لو أمكنني الإمساك بابنائي من أياديهم لنركض بحثاً عن مهرب بعيد ينسينا تلك اللحظات، سنختبئ في حضن زوجي وتنسينا ربتة يده كل ذكرى حفرتها لحظات الفاجعة. وصل زوجي بالفعل في تلك الليلة وارتميت في حضنه لكن المطاردة كانت في داخلي تلتهم جوفي فتكبر هوّة أشبه بمثلث برمودا تبتلع المنطق ويختفي في قعرها صدى تضرعي.

هذه هي إذاً شوكة  الموت وهذه هي استجابتك يارب، كل زوجة قسيس كانت تتفاعل مع الحادث كما لو كان ذلك الطفل ابنها هي وكأنها جالسة على الكرسي الأبيض البلاستيكي مكان الأم الثكلى بمجاورة حمام السباحة. كنا كلنا نصلي منتظرين غَلَبة من نوع آخر، فقد صرخ لساني في البداية منادياً: "يايسوع" كي تعلّمني كيف أسعف هذا الطفل بشكل أفضل، ثم عندما تولَّته أيدٍ أكثر خبرة وقوة مني صرختُ إليك "يا يسوع" كي تنفخ في الطفل نسمة الحياة من جديد. لم يكن أحد منا يعلم أن ابنك كان قد وصل إلى أحضانك يارب من قبل أن تبدأ كل محاولاتنا تلك، فكان لسان حالي وكأنني أعطيك فرصة كي تغير رأيك وتعيده إلينا لكنك قلت كلمتك الأخيرة وبقينا نحن على عنادنا أو على واجبنا، بقينا على بشريتنا متعلقين بآمالنا وصلواتنا متشبثين بمنطقنا تُنسينا الغشاوة التي غطت أعيننا أن أحكامك بعيدة عن الفحص وأن طرقك بعيدة عن الاستقصاء.

حالة الذهول التي أصبحنا عليها مع إشراقة شمس اليوم التالي دفعتنا إلى مَنطَقة الأمور فتبادلتُ الحديث مع بضعة أمهات ممن رافقتهن ورافقنني في عملية الانتشال والانقاذ خلال الثواني والدقائق الأولى. ماذا حدث؟ ماذا رأى أبناؤك؟ كيف قضيتم ليلتكم؟ متى تمكنتن من تغيير الملابس التي كنتن ترتدينها وقت وقوع الحادث؟ وإلى ما هنالك من أحاديث عقيمة كنا ندرك تماماً أنها لا ولن تجدي نفعاً لكن عقولنا التي شارفت على الانفجار تحتاج إلى أجوبة بعد أن تصاعد الدخان منها لكثرة ما احتوت من تفاصيل. كانت كل الأسئلة تدور في فَلَكِ سؤال واحدٍ أحد هو "السؤال الذي لا يغيب" فنتفنّن في تجميله واللف والدوران حوله لكنه هناك قابع بجبروته نراه ملء العين: "لماذا؟". نتذوق كلنا على اختلاف درجات قربنا مما حصل طعم شماتة العدو فقد سقطنا وانتشرت رضوض وكسور السقطة في أرجاء أجسامنا وأرواحنا لنئن في الأيام التالية من مختلف الأوجاع الجسدية والنفسية لكننا كلنا ننتظر أن نقوم لأننا حتى وإن طال جلوسنا في الظلمة فإن الرب نور لنا وهو حافظنا لأننا عليه توكلنا. إن كانت نفوسنا تئن منحنية وإن صارت لنا دموعنا خبزا نهارا وليلاً علينا أن نترجى الله لأنه هو حصننا وصخرتنا وقد وعد أنه سيرسل نوره وحقه ليهدياننا.

منطقنا البشري يقول أن الحياة بعد فقدان فلذة الكبد هي جحيم لا يطاق ولكن إلهنا، إله كل تعزية، يقول عكس ذلك فهو عمانوئيل "الله معنا" وهو القادر فوق كل شيء أن يصنع معنا أكثر جدا مما نطلب أو نفتكر، هو وحده القادر أن يصنع أمراً جديداً.

بدون تعليق: جيسون كان لابس واحدة من أساور المؤتمر ولو كانت اتقصت فهي مكانها دلوقتي أساور وتيجان الملايكة الصغيرين اللي وصلوا بيتهم الأبدي بالسلامة

(تم نشر المقال في مجلدة "الهدى" مجلة الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر، في عددها الصادر مطلع شهر آب/أغسطس 2016 أي قبل ظهوره على المدونة، واقتضى التوضيح أن صور مدونة رهاميات التقاط  وانتقاء  وإضافة الكاتبة)

Friday, August 5, 2016

ثغرات الجراند أوتيل


يستحيل على المرء أن ينكر سحر مسلسل  "جراند أوتيل" بمشاهده الآخاذة وديكوراته الفاخرة وشخصياته الناجحة التي تابعنا تحركاتها وأنفاسها إلى الدرجة التي كنا بها نشتم رائحة العطر الذي يستخدمونه في مشاهد غنية وصلت بغناها حد الترف. ذلك الترف العاطفي بمشاعر جياشة تتخبط ما بين حب وكره، والترف البصري بألوان الأثاث والملابس والاكسسوارات، والترف السمعي بموسيقى كلاسيكية وأخرى درامية من المستوى الرفيع. ومما لا شك فيه أنه قد داعبت بعض الأمنيات السرية أفكارنا ولو للحظات حيث تمنينا خلالها أن نحظى بفتات من ذلك الترف في حياتنا الواقعية.

من فرط حبنا لهذا المسلسل جاءت النهاية غير مقنعة ولا مشبعة بالنسبة للكثيرين، إذ لم يكن أدهم بيه حفظي هو الوحيد الذي ابتلع السم ولكن المسلسل احتوى على سم آخر بجرعات مخففة ومقعنّة طالتنا نحن كمتلقين أو مشاهدين توجب على إثرها الوقوف وقفة شفافية ووعي كي نتجنب خطرها. فكان لابد من نهاية ضعيفة كي نستفيق من أحلامنا وننظر بموضوعية إلى ثغرات مسلسل جراند أوتيل.
دعونا نخطو خطوة داخل قارب سيبحر بنا في زرقة نهر النيل الأسوانية ويقف على مقربة من "الجراند أوتيل" تاركاً مسافة صحية يمكننا خلالها أن نستعيد وعينا وتفكيرنا الموضوعي، فمن موقعنا هذا سننظر إلى الـ"جراند أوتيل" من منظار جديد وسنبحث عن الثغرات المختبئة بين ثنايا هذا المكان الهادئ الصاخب في آن معاً كي لا يفرض علينا أو يدس في حياتنا أمراً ما كالسّم فنرى انعكاسه على حياتنا اليومية. إن أقل ما يمكن أن يقال عن هذا العمل هو أنه رائع، ولكنه لم يخلُ من الثغرات التي اختبأت ما بين طيات الجمال والرومانسية وقبلناها، بينما كنا سنرفضها لو رأيناها عارية دون أية رتوش.

الاستخفاف بقرار الارتباط
كان "مراد" و"نازلي"، أولاد العم، كما يُطلَق عليهم بالانجليزية high school sweethearts فقد تربيا معا منذ أن توفي شقيق "أدهم بيه" وكان "مراد" قد بلغ السابعة عشرة من العمر فانتقل إلى العيش في "الجراند أوتيل" ليقعا هو و"نازلي" في حب بعضهما البعض  ويكبرا معا إلى أن أتى موعد السفر إلى إنجلترا قضت "نازلي" خلاله مدة طويلة تدرس وتتذوق طعم الغربة وفي نفس الوقت كانت تكبر بعيدا عن "مراد" جغرافياً وعاطفياً.

لا يمكننا تماماً تبرئة "نازلي" والتماس الأعذار لها في استخفافها بأمر الارتباط حيث قامت بتلك الخطوة المتهورة وتزوجت من "مراد" في ظل الظروف التي تابعناها كلنا وهو زواج محتوم بالفشل وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان. ثم نجحت عبقرية الكاتب والمخرج والممثلين في كسب تعاطفنا مع علاقة الحب التي نشأت ما بين "علي" و"نازلي"، فهي مظلومة تعيش حبيسة علاقة زوجية غير مشبِعة، و"علي" مغلوب على أمره أمام عذوبة وجمال "نازلي هانم". إلا أن ناقوس الخطر كان حريّ به أن يدق باكراً جداً، فبمجرد أن يقرر اثنان على الزواج بمحض إرادتهما يجب أن يلتزما بهذا العهد وألا يسمح أحدهما لنفسه بأن ينجرف وراء حب رومانسي آخر لا يمكننا إلا أن نسميه باسمه الحقيقي أنه "غير شرعي". لكننا نحن أيضا كان مغلوب على أمرنا فقد بتنا نقارن خيانة "مراد" وعلاقاته الغير شرعية والمليئة بالشهوانية والسلطوية المرضية ما بينه وبين الخادمات ابتداء من "ضحى" ومن ثم "ورد" نقارنها بعلاقة "علي" و"نازلي" الفائقة العفة والرومانسية فنقبل الثانية بينما نحرم الأولى. لا يمكننا تحت أي مسمى أن نقبل ما حصل بين "علي" و"نازلي" على أنه حب عذري طاهر فأحدهما متزوج من شخص ثالث هو الحاضر الغائب في أي علاقة خيانة كهذه. كما أنه لايمكننا أن نقبل فكرة استخفاف "نازلي" بقرار ارتباطها وتناولها لموضوع الزواج بالطريقة التي فعلَتها لتصبح مثلاً أعلى يحتذى به لأي فتاة تظن أنها مظلومة في زواجها فتبيح لنفسها فكرة الدخول في علاقة رومانسية مع شاب آخر، سواء كان هو بدوره متزوجا أم لا. ما يشفع لنا هو أننا وإن قبلنا بتلك العلاقة إلا أننا أيدنا الحق عندما انتفضنا مع انتفاضة "أمين" عشية معرفته لحقيقة "ورد" فحملها هي على كتفه الأيسر واحتضن الطفل "سليم" بذرعه اليمنى وذهب طارقاً باب غرفة "مراد بيه" قائلا: "الحاجات دي تخصك... ما تخصنيش" فقد كان قبلاً يتقبل فكرة أبوته لـ"سليم" بمحض إرادته ظناً منه أن الأب الحقيقي هو "كلب عمل عملته وهرب" لكن ذلك الكلب عندما بات له وجه وإسم معروفان اقتضى الموقف رد فعل مختلف وكلنا احترمنا "أمين" بعد أن أعاد الحق إلى صاحبه حتى وإن كان الآخير شيطاناً.

مع كل محبتي واحترامي لـ "علي" و "نازلي" أقول لهما "اللي كنتوا بتعملوه ده على فكرة مش صح ومايرضيش ربنا واسمه الحقيقي كلمة واحدة صعبة: خيانة" لكنني في نفس الوقت لا يمكنني أن أنكر كم استمتعت وسرحت وأبحرت بخيالي بعيدا وأنا أتابع مشاهد لقاءاتهما هناك في المكان السري أو تبادلهما للنظرات سرّا كي لا يلحظهما باقي الحاضرين. كنت فقط أتمنى لو أن حبهما هذا جاء بعيدا عن حقيقة زواجها هي من "مراد" فقد كنت سأستمتع بمتابعة تطورات هذا الحب بشوق أكبر وبضمير أكثر راحة.

الابتلاء، ما بين الحافز والسلبية
يقترح "إحسان بيه بركات" على والدته اقتراحاً يبدو منطقياً "يعني لو اتبنينا طفل صغير..." فتقاطعه هي بدورها وترفض تلك الفكرة "لا يا حبيبي لأ ... دي مشيئة ربنا ... ما نعترضش عليها أبدا ... ده ابتلاء من ربنا، نقبله، وما نعترضش عليه...". كلام جميل حقا ولكنه لا يتنافى مع اقتراح "إحسان". المسألة ليست مسألة إما أو، وكأن "إحسان" في هذه الحالة لو تبنى طفلاً فهو يعترض على حكم الله. الحقيقة أنه كان بإمكانه في ذات الوقت أن يقبل ظروفه ويحمد الله عليها وأن يتبنى طفلاً يتيماً يعوضه عن خسارة والديه فيحقق بذلك خيرا قد أراد الله أن يمنحه لهذا الطفل اليتيم من خلال "إحسان بيه". أما الابتلاء فسوف يتحول حينئذ إلى طاقة عطاء وعمل كي نحدث تغييراً إيجابياً في الإنسانية جمعاء من خلال فعل خير فردي بسيط. وبالتالي فأنا كإنسان، في وجه المحن التي قد تعصف بحياتي، سأصالح ما بين فكرة العيش في حالة رضى وقبول وتسليم لما قسمه الله لي وما بين القيام بدوري الناضج في إحداث تغيير نحو الأفضل.

كحلناه أم أعميناه
انتشرت خلال حلقات المسلسل وصفة الحل السريع أو الـ "ماك حل" ولكنه أمر لم يكحل المسلسل بل أعماه وقد يكون أعمى المشاهدين أيضاً عندما أقنعَنا بأن الحل السريع لأي مشكلة هو القتل. سوف تقوم "ضحى" بفضح العلاقة الغرامية ما بينها وبين "مراد" لذا يجب أن نقتلها، وعندما تعود من جديد نقتلها حقا هذه المرة، وعندما ينقذها "ماهر" ويخبئها في بيته نقتله هو، أما "ورد" فسننتظر أن تتمادى أكتر في جشعها إلى أن يتمنى جميع متابعي المسلسل موتها وعندها نقتلها أخيراً (وغالبا نقتل الطفل الرضيع معها!). ناهيك عن تلميح "مراد" بأنه سيقتل "علي" والتهديد والوعيد العلني لـ"علي" بأنه سيقتل "مراد". إيه كل ده؟ من أين أتى هذا العنف القابع تحت سطح ذلك النهر الفيروزي الساكن؟ فإن كنا ننتقد علناً كم العنف الفعلي واللفظي في المسلسلات الرمضانية الأخرى فإننا يجب أن نقف وقفة تمعن أمام العنف الموجود في "جراند أوتيل" بدل أن نتعامل معه على أنه أمر عابر يمر علينا مرور الكرام، مرور الهوانم بفساتينهن واكسسواراتهن ومرور البهوات بساعات الجيب التي تتدلى سلاسلها من جيوب وأزرار بزاتهم.

 لقد طفح بنا الكيل، فهذه ليست الطريقة التي تدار بها أمور حياتنا في الواقع. لو لجأنا إلى القتل، حتى وإن كان المعنوي منه لا الحرفي، في كل مرة نواجه بها مشكلة ما فستتحول علاقاتنا إلى مجازر. هناك مئات بل وآلاف الحلول غير القتل، منها على سبيل المثال لا الحصر، المواجهة والمصارحة أو طلب المعونة، منها الصدق والشفافية والتماس الأعذار، منها (كما طرح المسلسل في سياق آخر) الغفران والمسامحة، ومنها رد المسلوب والسعي نحو عودة الحق إلى أصحابه. في عصر ومجتمع مفعم بالعنف لا نحتاج قشة لتقصم ظهر البعير بل نحتاج إلى بذل مجهود أكبر في إيجاد حلول متوازنة وناضجة خاصة إن تعلق الأمر بعلاقات عزيزة على قلوبنا وتستحق منا عناء المحاولة أو المحازفة بعيدا عن سيناريوهات القتل والبتر والاجتثاث.

رصيد الزوجين في بنك الحب
يعي "إحسان" تماما أن "أمال" كانت تحبه في مرحلة ما قبل نقطة التحول التي أودت بها إلى ارتكاب كل تلك الأخطاء في حق زوجها واعتمد في حجته تلك على حقيقة أنها أهدت له نصيبها من الأوتيل وهي بذلك تبدو كأنها أضافت إلى رصيده البنكي أرقاما مادية ولكنها في الحقيقة قد أضافت إلى رصيدها هي في بنك الحب الزوجي أرقاما معنوية. أما حب "إحسان" فلم يتوانى هو بالقول أو الفعل عن رفع رصيده في بنك حب زواجهما لدرجة التخمة.

إن أية علاقة زوجية هي بنك للحب يتوجب على كلا الزوجين أن يزيد رصيده فيها من خلال الأقوال والأفعال، لأنهما سيحتاجان إلى هذه الأرصدة عندما تهب الرياح كما لا تشتهي السفن. وهذا الرصيد الذي أودعته "أمال" في بنك الحب هو الذي شفع لها لدى "إحسان" كي يغفر إساءاتها المتكررة ويسامحها ويبدآن كليهما صفحة جديدة. لن ننكر هنا دور "عنايات هانم بركات"، فحتى وإن كانت مواقفها مع كنّتها قد بدأت بداية درامية غير محببة إلا أن "أمال" في النهاية رأت الحقيقة واعترفت بها بلسانها قائلة: "أكيد الست اللي تربي راجل زي إحسان، تقدر تسامح وتغفر".

في داخل كل منا وجه طيب وآخر شرير فلماذا نختار أن نعلي مكانة الأخير؟ هل لأننا نرى الحب على أنه ضعف وانتقاص للكرامة في مجتمعنا الذي يعيش بحسب قانون الغاب حيث البقاء للأقوى؟ أم لأننا نسمح لعنصر ثالث أن يكون سيد الموقف فيعتلي الخوف عرش مشاعرنا ويتحكم بعلاقاتنا وبطريقة تفاعلنا مع أقرب الناس لنا. لماذا نخاف أن نحب؟ ماذا كانت "أمال" و"عنايات" تنتظران كي تصلا إلى هذه الحالة من الحب والغفران؟ فقد اثبتت المحنة أن في دواخلهما طاقة حب وغفران لا تنضب قد غيبها الخوف والفهم الخاطئ لطريقة حفاظ كل منهما على كرامتها أمام الأخرى وأمام المجتمع.

فوتوشوب الخمسينات:
كنا نتوق في المشهد الأخير لمعرفة ما هو الحدث الهام الذي يتطلب حضور جميع الشخصيات الرئيسية باستثناء "قسمت هانم" التي رفضت المشاركة بمحض إرادتها، فقد خاله بعضنا عشاءً مهماً أو احتفالاً أو تجمّعاً من نوع ما مع أن جملة "نازلي": "من سنتين بالظبط انت كنت واقف لايص، والولاعة دي أنقذتك" كانت كفيلة بأن تذكرنا بيوم لقائها الأول بـ "علي" واستخدامهما لولاعة "أدهم بيه" التي تحتفظ بها هي بعد وفاته. لكن الصورة كشفت لنا عن شخص زائد وأخر ناقص.
وجود "فاطمة" على يمين الصورة تقف مع باقي الخادمات كان ثغرة ملحوظة. ألم تسافر عائدة إلى أمها؟ ألم يشترِ"علي" لها تذكرة القطار بنفسه وينتظر برفقتها في المحطة لمدة نصف ساعة إلى حين موعد السفر؟ هل أرسل "أمين" لها SMS  أو كلمها عبر سكايب وطلب منها القدوم أم أنها قرأت على صفحة الفيسبوك الخاصة بـ"جراند أوتيل" أن يوم الصورة الجماعية قد حان فأتت للمشاركة أو لتتصور سيلفي مع "عائلة الجراند أوتيل"؟
غياب الـ"ريس صديق" عن الصورة كان مُلفتاً أيضاً. إن انتصار البطل وزواجه من البطلة في نهاية سعيدة لقصة حبهما قد يكون مجلباً للحظ التعس فحاول الكاتب أن يختار "الوصيفة" الأولى ليعلق عليها شماعة الشؤم. فعلاقة "الريس صديق" بـ "الست سكينة" هي التي احتلت المرتبة الثانية في ماراثون العلاقات الرومانسية الشرعية منها وغير الشرعية في المسلسل لكن هذا لا ينفي حزننا العميق لأن "سكينة" آثرت أن تُبقي على علاقتها بـ"صديق" ضمن إطار الحلم المستحيل، وهذا أمر قد نفهمه، إلا أننا ومن خلال معرفتنا لمدى نضج وتفاؤل "الريس صديق" يصعب علينا تصديق غيابه عن الصورة الجماعية، هل قدم استقالته من العمل وعاد إلى الاسكندرية لأنه لا يقوى على التواجد بالقرب من "سكينة" بعدما قالته له؟ أيعقل أن يكون "صديق" قد "اتقمص" كالمراهقين ورحل؟ فحتى لو خابت آمالنا مثله إثر سمعاعه لرد "سكينة" إلا أنه كان حري به أن يظهر في الصورة الجماعية.


في الختام لا يسعني إلا أن أتقدم بكل الشكر والاحترام للمجهود الجبار الذي بذله طاقم العمل بممثليه المبدعين وبالقائمين عليه من النواحي الفنية كهندسة الديكور والصوت والإضاءة وتصميم الأزياء وتأليف الموسيقى التصويرية. تحية لمؤلف العمل الأستاذ تامر حبيب وللمخرج الأستاذ محمد شاكر. وكل عام والدراما المصرية بألف خير.

 تم نشر المقال بتاريخ 16 تموز/يوليو 2016 على موقع مدونة "نون" مع اعتذاري عن الأخطاء التي أضافتها مسؤولة التدقيق في المدونة
http://www.nooun.net/show_article/%D8%AB%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%AF%20%D8%A3%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%84/