لكل منا عالمه الافتراضي الذي يهرب إليه عندما تضيق به
دنيا الواقع وتصطدم أحلامه بجدران قد يكون هو من بناها بكلتا يديه. وتتحول خصال كالجرأة
والخيال الخصب والوعي الذاتي من أمور إيجابية إلى سبب أساسي في تغذية عالمنا
الافتراضي.
أعتقد أن حالة الهروب تلك أكثر شيوعا بين الإناث في
مجتمعاتنا منها بين الذكور، مع أن "مها" بطلة فيلم ديكور لا تبدو مقموعة
أو مضطهدة ولا تعكس نمط الحياة الشائع لإناث مجتمعنا إلا أنها حاكت عوالمها
الافتراضية بمهارة فاقت فهمي كمتفرج رغم تفاعلي واندماجي التام بأحداث الفيلم.
"سان ستيفانو؟" أومأ السائق بالإيجاب فركبت
وجلست مترقبة مغامرة كأنني على متن طائرة ستعبر بي إلى قارة ما وراء البحار. كنت
قد خرجت من المنزل في ذلك اليوم الاسكندراني الغائم الكئيب وأنا على موعد مع أمر
ما، لم أكن أعي ما هو تماما لكنني كنت أنتظره مع كل نسمة باردة صفعني بها هواء
الشارع الذي لم تطأه قدماي منذ زمن إلا برفقة زوجين من الأقدام الصغيرة والأصابع
المتشابكة ما بين أمر أمومي "لا تفلتوا إيدي لنطلع ع الرصيف" ونهي غريزي
"انتبهوا من بحرة المجاري ما تدعسوا فيها"، لكنني هذه المرة أمشي وحيدة
بخطى مسرعة كي لا أتأخر عن موعدي المجهول.
بالنسبة لفتاة مثلي تمتلك خيالا واسعا وذاكرة بصرية حادة
ووعيا عميقا للذات مع جرأة كافية للولوج داخل أعماق عالمها الافتراضي تتحول تلك
الخصال الثلاث الآنفة الذكر من مزايا إيجابية إلى خطر مدقع، فلو أتيت على ذكرها
منفردة كنت سأسمع تصفيقا حادا من الجمهور لكنني تعتمدت أن أغمسها ضمن إطارها
السليم والواقعي لأنها ليست إلا أدوات حادة تشبه أزاميل النحات نستخدمها نحن
الإناث في نحت صخر عيشتنا في مجتمعاتنا.
أزعجني هواء البحر فرفعت زجاج النافذة ظنا مني أنني
قادرة على طرد البحر خارج حياتي ولو ليوم واحد، فموعدي اليوم ليس معه، ذلك الجبار
الذي أعيش بجواره لكنه يعيش داخلي دون أن أدري. هو من يجلب لي هدية الشتاء المفضلة
التي انتظرتها اليوم باعتراف ضمني أن السماء ستمطر حتى وإن لم أصطحب معي شمسيتي، فلو
شاءت الغيوم أن تشاركني دموعها ما كنت لأحجب ذلك بجدار شمسية سأنساها حتما داخل
قاعة السينما. اصطحبت معي فقط جواهري الثلاث وقد أعمى بريقها عيناي اللتان اعتادتا
الظلام وسط عجيج وضجيج قاع المحيط الذي أقبع فيه ما بين كلمة "ماما"
التي تجر بعدها سبحة لا نهائية من الواجبات والمتطلبات والمهام، وما بين صوت
أفكاري التي تتقافز علها تجد أذنا مصغية فتكنّ تحت وطأة واقع انشغالي عنها وعني.
"كملي وشوفي خيالك هاياخدك لغاية فين" يقولها
الشاب بكل بساطة لـ"مها" غير مدرك كم من مها ستسمع كلامه، كم من مها
ستتوق أن يحبها رجل واحد حتى وليس اثنين، أن يحبها ولو بنصف مقدار حب هذين الزوجين
الذين لا أعرف أيهما كان الزوج الحقيقي وأيهما نسج أوهامها، ما بين
"مصطفى" و "شريف" أضاعت مها نفسها وخسرت حياتها ظنا منها أنها
تمتلك قدرات خارقة كالتي تخيلتها يوما لنفسي. كانت إحدى هذه القدرات أن أتمكن يوما
ما من الإمساك بالبحر وإذا به يتسلل من بين أصابعي ويتقهقر خطوات عدة ليرتفع بموج ذي
ذراع ابتلعتني وتبتلعني كلما قابلته وها هو يطل في الفيلم دون أن أوجه له الدعوة
لمرافقتي اليوم لكنني أنا من اخترت التسليم وركنت جانبا رغبتي في التحكم. لم أشأ
أن أتولى القيادة مع أن سيارتنا على كل الأحوال قد دخلت شهرها الثاني في الصيانة
لكنني اعتبرت ركوب التكسي خيارا ليس بالإجباري. لم أشأ استخدام الترام خشية أن تخونني
فرحتي فتتسلل إلى وجهي لتقرأها إحدى رواد عربة السيدات وتزجرني بنظرة تذكرني بها
أن الترام له حرمته فأنا لم أعتبر يوما أن لي الحق في أن أدوس أرضه مرتدية
ابتسامة.
زياراتي للسينما بمفردي هواية المدن الساحلية، لم أفعلها
يوما في دمشق أو القاهرة، أدمنتها في بيروت منذ 15 عاما وفي الاسكندرية أعدت
إحياءها ولكن على حياء فوقتي ليس ملكي هنا والإدمان حرام على من تريد أن تكون أماً
مثالية وزوجة صالحة فالجواهر الثلاث تلك باتت أكثر ندرة من لآلئ البحر وأنا لست حورية
حتى أحظى بالكثير منها، فقد انقضت سنين طويلة قبل أن أُمنح ساعات ثلاث تكفيني
لقضائها مع صديق قديم، إدماني.
روائية وراقصة باليه غير متزوجة، عازفة فلوت في نفس الأوركسترا
التي يعزف بها زوجي، راهبة رحالة تجول العالم، صحفية ومراسِلة على خطوط النار، لاعبة
تنس لم تنجب خوفا على بطولاتها الرياضية، مضيفة طيران تأخرت في الزواج لكثرة حلها
وترحالها... تلك بعض من العوالم التي حاكتها مخيلتي ورغباتي الدفينة لكنها لم
تتحول يوما إلى مرض كالذي عانت منه مهندسة الديكور في الفيلم الذي اختار المخرج أن
يقدمه لنا باللونين الأبيض والأسود مع أنه على فم "البشمهندس شريف" يقول
"الحياة مش بس يا أبيض يا أسود" لكن هذا الخيار له ارتباط صارخ ومباشر
مع إدمان البطلة على مشاهدة أفلام الأبيض والأسود وتأثير تلك الأفلام على مرضها.
مع أنني أمتلك الكثير من الصفاة المشتركة مع شخصية مها،
وقد كنت قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق إلى مرض نفسي معقد كالهلاوس البصرية
والسمعية والحسية، إلا أنني تذوقت حلاوة جزء من عوالمي تلك في مرحلة ما من حياتي
طالت تلك المرحلة أم قصرت، وأنا الآن أعيش واحدا من تلك العوالم الافتراضية التي
نسجتها وأعتقد أن هذا هو السبب الذي كان يقيني من المرض خلال تلك السنوات الطوال
من الأحلام، فقد قررت في سن مبكر أن أقرن الحلم بالعمل الدؤوب.
كان مشروعي الصغير منذ سنوات المراهقة المبكرة هو شخصيتي،
فغدوت أستاذا صارماً ومدربا ً قاسياً لنفسي لا أقبل الخطأ أو التراخي. بدأت بأهداف
صغيرة لكنها لم تكن يوما تافهة فمنها ما يتفق عليه الإتكيت العام "اتمرني على
الأكل بالشوكة والسكين، بريك كل شوي، ولما تقومي بالمطعم بترجعي الكرسي لمكانه قبل
ما تمشي، ما تزتي شي بالشارع حتى لو قشرة بومبونة..." غيرها اكتسبته أثناء
سفري مرات عدة لأمريكا وبريطانيا "ما تكتبي جوات الكتاب وخليه معك بأي مكان
حتى تقرأي بأي وقت بالمواصلات أو انت وعم تستني بالمتحف وبالمسرح بس دايما خلي إله
مكان بالشنطة حتى ما يتبهدل...." وغيرها اخترته لنفسي من سلة كبيرة لخيارات
أغناها احتكاكي بأطياف عدة من الناس من شتى بلدان العالم "حلوة هالفكرة (لبس،
اكسسوار، تسريحة شعر، أغراض عملية للاستخدام، طريقة ترتيب المنزل) معها حق (هالبنت،
هالطانت، هالعجوز)...."، ثم كبرت هذه الأهداف رويدا رويدا فتعلمت كل ما وقع
في يدي أن أتعلمه من لغات ورياضات ورقص ومهارات عدة حتى تجذرت تلك الباقة في
شخصيتي وتخمرت ونضجت فتحولت إلى قناعات راسخة لا تخضع للمساومة كقبول الآخر
المختلف أيا كان اختلافه سواء بالشكل أو الاعتقاد، كحسن الإنصات إلى شخص يشاركني
أعماقه، كافتراض الأفضل في الناس وكأنهم على مستوى من النضج والخبرات التي تستحق
الاحترام وسأتعلم منها الكثير سواء كانوا أكبر أو أصغر مني سناً، كالجنون والعفوية
والفكاهة وغيرها من الأهداف والمشاريع الملموسة والمجردة التي طبقتها على نفسي
وحلمت أن أعيشها أيا كان شكل مستقبلي وأيا كانت طبيعة حياتي وأيا كان بلد مستقري
فتمكنت بذلك أن أحافظ على صحتي العقلية والنفسية إلى يومنا هذا، إلى حد ما، في وجه
عواصف اختلفت شدتها مع مرور الأيام.
لاتزال عوالمي الافتراضية تزورني، كمن يعاوده المرض، لكنها
تأتيني بألوانها كاملة، وعلى الأخص مع بداية عام جديد، وها قد أطلت برأسها مجددا مع
فيلم "ديكور" الذي أجج عندي المواجع فعرض على مرآي فيلماً موازياً له،
أحداثه مستقاة من تلك العوالم، أنتقي منها ما يمكنني قصه ولصقه في واقع أيامي
وأستمتع بالمستحيل منها وأذكّر نفسي بالكم الهائل من الفرح الحقيقي في حياتي، أتلمظ
الحظة التي بين يدي، الـهنا والآن. "العيشة اللي انت عايشاها في بنات كتيرة
تتمناها" حتى وإن قيلت تلك الجملة لـ"مها" حتى وإن كانت تعني
حياتها مع مصطفى وهيا، حتى وإن لم تكن هي الخيار الأفضل على الإطلاق، حتى وإن كان
هناك احتمالات أنسب لها بريق أكبر، رغم كل
ذاك هي جملة تنطبق علينا كلنا بلا استثناء. مهما ازدادت روعة عيشتنا فهناك دائما
الأفضل ومهما تمرّغت أيامنا بطين المشاكل والحزن والألم هناك دائما الأسوأ وهناك
دائما فتيات تتمنين عيشتي هذه أو تلك. وتبقى المهمة المشتركة لنا جميعا أن نختار.
لكن من حق خياراتنا علينا أن نعيشها إلى أقصاها بدل أن نصرخ في وجهها "أنا
ساكتة عشان أداريكو بس انتوا مش حقيقيين، انتوا ديكور أنا بنيته" كما فعلت مها
التي لم يكن من العدل أن تظلم كل من أحبها ووقف إلى جانبها فقد كانت دائمة
الافتراض أنا السعادة في العالم الآخر، وكررت غلطها مع كلا العالمين فخسرتهما
كليهما بشكل أو بآخر.
وسط عشوائية القدر ووسط أمواج بحورنا هناك دائما شبابيك
الاختيارات، أسميها شبابيك لأن تلك كلمة قد وردت بقوة في الفيلم من خلال أغنية منير بأداء هاني
عادل الاحترافي shababeek ولأني أنا شخصياً أرى أن الشبابيك ما هي إلا كناية
أخرى عن الخيارات، فالشباك بطبيعته يمنحنا إطلالة مختلفة عن موقعنا وهو يحمل في
طياته امكانية التغيير لكنه ليس بالأمر المطلق فأي خيار نتخذه سنبني عليه قرارات
وبعضها لا رجعة فيه. حتمية يراها البعض أسرا للحرية لكنني أرى فيها حماية لنا ولمن
نحب. فلنحذر في التعامل مع شبابيكنا التي هي رغم كثرتها إلا أنها تقسمنا إلى نوعين
من الناس، النوع الذي يعيش واهما بأن حياته قد بلغت الملء وأنه قد حقق هدف وجوده
وكينونته، والنوع الآخر الذي يتخبط في توتر دائم ما بين الاكتفاء والطموح ما بين
الاستقرار والتوهان، وهذا هو النوع الذي أصنف نفسي ضمنه. أعيش ما سكة عصى التوازن
سائرة على حبل الحياة خشية الوقوع في شرك الاكتئاب وتوبيخ الذات والفشل أو أهوي
إلى قاع الغرور والاعتداد بالنفس والنجاح، تارة أنغمس في هدف سامٍ يأسر كياني وتارة
أخرى أتنحى جانباً وأردد كلمات مها "مش فارقة، مفيش حاجة بقت فارقة"، أعيش
يوما بإدراك تام لمن أنا وخطى ثابتة نحو هدفي ويوما آخر أغرق في سعيي نحو المعنى كمراهقة
تكتشف ذاتها للتو، وأكمل الرحلة فأعيش ...على شفير الحقيقة.
رهام جرجور
الاسكندرية - كانون الثاني / يناير 2015
جميع الحقوق محفوظة
بدون تعليق: تعمدت ألا آتي على ذكر أية تفاصيل تخص الفيلم حرصاً مني
على عدم إفساده لمن يود مشاهدته. الصورة تجميعة للقطات معينة أثرت في وكنت أتمنى
أن أجد على النت مزيدا من التذكارات لفيلم أقل ما يمكن وصفه بأنه رائع.