Wednesday, February 18, 2015

صورة المليون دولار

في بيتها الاسكندراني الذي أجهل كم بيتا سكنَت قبله في مدن مصرية شتى أمسكَت بيدي تقودني من غرفة لأخرى تعرّفني إلى مهمة كل غرفة بما فيها المطبخ، فهذا المنزل المتواضع صغير الحجم كبير الحب، هو قلعتها التي استقرت بها الحال فيها بعد سنوات كفاح التهمت شبابها كأم لخمسة أبناء تزوجوا جميعا وأنجبوا لها أحد عشر من الأحفاد. غرفة الجلوس الممتدة إلى غرفة الطعام نالت نصيب الأسد من الوقت لكثرة ما فيها من براويز وصور أصرّت طنط إيلين أن تحكي لي مقتطفاتٍ عن كلٍ منها فتنوعت التفاصيل ما بين قصص الأبناء والأحفاد: "دي صورة فلانة يوم فرحها... دول بنات فلان لما كانوا صغيرين...". استوقفتني صورة بالأبيض والأسود فتناولتُها: "تعالي نقعد" وجدتُني أريد معرفة المزيد عن تلك العائلة بأفرادها الاثني عشر. يجلس الأب في منتصف الصورة مرتديا طربوشه و إلى يمينه كرسي الأم وإلى يساره إبنه البكر ويقف الابن والابنة الصغيران ما بين الكراسي الثلاث. أما الصف الخلفي فيقف فيه باقي الأبناء بالتناوب ما بين ذكر وأنثى وينظر الجميع إلى عدسة الكاميرا نظرة يعلوها رضى وسعادة ارتسمت بنيّة ابتسامات خجولة على بعض الوجوه.

رغم قِدَم الصورة وتدرّج ألوانها بظلال الأبيض والأسود إلا أنه لا يخفى على الناظر نظافة وترتيب وأناقة عالية المستوى في الملابس والأحذية وتصفيفات الشعر لكل فرد فيها. "ماما هي اللي مخيطالنا هدومنا دي" صرّحت لي إيلين بكل فخر أن زوجة القسيس يونان كانت ماهرة في التفصيل والخياطة حيث تنوعت إبداعاتها ما بين بِزّات رجالية وأطقم أنثوية شبابية وفساتين بناتية وقمصان بكل المقاسات والتصاميم، ارتداها خمسة صبيان وخمس بنات مع والديهم.

قلت وكأنني قد استسلمتٌ لتعويذة هذه الصورة: "هالصورة إسمها صورة المليون دولار" فرأيت طنط إلين تطلق ضحكة من قلبها الطفولي البريء وترفع يدها تغطي فمها بخجل وتميل برأسها ناحية اليمين كعادتها عند الضحك. أعادتني قهقهتُها إلى أرض الواقع فسألتُها أي الفتيات في الصورة هي. أخبرَتني أسماء الجميع واحدا واحدا شارحة لي أماكن سكنهم جميعا ومن منهم يقطن بيته الأبدي. لم أدرك وقتها أنني سأرى هذه الصورة في المستقبل مرتين ثانيهما ستكون بعد رحيل طنط إيلين.



خلال السنوات التي تلت ذلك اللقاء الأول بـ"صورة المليون دولار" التقيتُها ثانية يوم دخلتُ بيت طنط إيلين المكتظ في ليلةِ عيد. بعد أن سلّمتُ على الجميع سألتُ عن الصورة: "وحشِتني". من الطبيعي أن يشتاق المرء إلى صورة تحكي أبلغ الكلام بعلو الصوت، تأخذ بيدك إلى نقطة ما في تاريخ مصر الحديث وتقف بك هناك حيث يتجمد الوقت والكلام وتنطلق المخيلة في تصوير فيديو وثائقي لحياة تلك العائلة فترسم ملامح يوم عادي من أيامهم غير العادية. رأيت القس يعظ من على منبر الكنيسة حيث تجلس زوجته في الصفوف الأمامية بكفيها المشبوكين يرتاحان في حضنها الذي حبل وأنجب مرات قد تفوق العشر. زوجة قسيس جبارة مدبرة حكيمة ورثت عنها طنط إيلين قبضة قوية كانت تمسكني بها وتشدني فأطبع قبلتين على خديها كل مرة كنت ألتقيها لأشم عبير عِطرِها، أتراها ورثت أيضا النظافة والترتيب والأناقة عن زوجة القسيس؟ جدة في مطلع الثمانين من عمرها تحرص على أن يكون شكلها أنيقا وجسمها نظيفا كروحها المعطرة بعطر المسيح الزكي.

أدهشني في الصورة جرأة بعض الأبناء على الابتسام في وقت ارتبط فيه ظهور التصوير الفوتوجرافي بتكشيرة ذات لونين كما أثار فضولي ذلك الانضباط بالأبيض والأسود ينتمي إلى سلسلة من التقاليد والأعراف التي حَرِصَت العائلات الملتزمة آنذاك على ممارستها وتربية وتدريب أبنائهم وفقا لها. واليوم، ما بين عصر الأبيض والأسود وعصر الصور الذاتية، الـ "سيلفي"، يقبع جيل بأكمله هو جيل تيتا إيلين. كبر هذا الجيل مع صور الأبيض والأسود ووصل به السن إلى عام 2015 ليشهد تسونامي السيلفي. آباء وأمهات غدو أجادا وجدات فعاصروا حفيدة كابنتي ذات الأعوام الثلاث تمسك بكاميرتها البلاستيكية وتلتقط لنفسها صورة "ثيلفي" ثم تدعوك قائلة: "ناخد ثيلفي ثوا؟". هذان النوعان من الصور أشبه بغلافي كتاب يحتضنان حياة كحياة طنط إيلين، كتاب لقصة أنجبت فغدت قصصا لأناس مروا في حياة تلك السيدة التقية وعرفوها حق المعرفة فأدركوا من خلالها معنى الإرث وومعنى الصلاة ومعنى الإيمان ومعنى التفاني ومعنى التاريخ الذي ينبض في العروق ويسري في الدم المصري كنهر النيل يبعث الحياة أينما سار.

كنت في حيرة دائمة عن الكيفية الأنسب لمناداة صاحبة صورة المليون دولار، فقد وقعتُ من حيث السن ما بين جيل أولادها وجيل أحفادها فتارة لقبتُها "طنط" وأخرى "تيتا"، هي طنط لأنها تكبر أبي بأربعة أعوام فقط، وأنا أصغر إخوتي سنا، لكنها تيتا لأنها كانت الشخصية الأقرب إلى شخصية جدتي، فحازت بمكانة في قلبي تعيد إليه ذكرى "تيتا بديعة" فأعجبتني فكرة أن يكون لي تيتا اسكندرانية ، وكلما كنت أجلب لها أبنائي مساء أيام الآحاد كي يسلموا على "تيتا إيلين" في الكنيسة لم أكن دائما أشعر بأن هذا اللقب يقتصر عليهم هم فقط ، فقد كان له طعمٌ حلوٌ في فمي أنا أيضا. كانت تعتبر أولادي أول الأحفاد لابنتها الثانية فرأت فيهم بركة الجيل الرابع ولم تكن تشعر بالغيرة عندما يركض ابني وابنتي لاستلام كيس "الفشار" الأسبوعي من "زيزي" ويتغافلان عن إلقاء التحية عليها هي، لكنها في نفس الوقت لم تكن تشعر بأي حرج من أن تناديهم بأسمائهم إلى أن يسمعوا صوتها وتأنيبها: "مش هاتسلموا عليَّ؟" فهي معهم على سجيتها، وكأنها تقول لنا: "محدش له دعوة، دول أحفادي برضه".

"سألِت عليكي يوم الأحد"، قالتها لي "بلبل" ثاني أصغر بناتها والدموع تنسكب من عينيها أثناء تلقي الأسرة العزاء يوم الثلاثاء الذي يليه مباشرة فانتابني الصمت لأني كنت أعرف أنها فعلَت، حتى لو لم تكن قد قالت لابنتها ذلك فأنا أعلم مدى حبها لي فهي واحدة من أولئك الأمهات الطماعات المدمنات، رغم امتلاء بيتها بالأولاد والأحفاد إلا أنها كانت تصر أن تدعونا إلى بيتها المزدحم في العيد منذ أن انتقلنا أنا وزوجي إلى العيش في الاسكندرية، مدينة ليس لنا فيها عائلة أو أصدقاء أو أقارب. كانت دائمة الطمع بالمزيد من الأبناء والأحفاد لأنها مدمنة حب ومدمنة عطاء رغم امتلاء حضنها بأغلى كنوزها لكنها كانت تجمع في ذلك الحضن المزيد، فهو يتسع للكثير ومن الخسارة أن يذهب متسع المكان ذاك سدى. امتلكَتْ بيتاً ذو جدران متحركة تفسح لك مكانا مع كل ابتسامة من أفراد الأسرة، وحضناً ذو دفء يقتسمه الجميع ونشاركهم نحن الأربعة به دون أن يشعر أحد، كبيرهم وصغيرهم، بأن حصّتَه مُنتقصة. هذه كانت طنط إيلين بالنسبة لي ولعائلتي الصغيرة وهكذا ستبقى ذكرى طنط إيلين في حياتي كجزء من عائلتها الكبيرة.


"رح أشتاقلك يا تيتا" فامثالك يتركون فراغا كبيرا لأن قصرك كان كبيرا،الفارق أن القصر العادي عندما تُغادره الملكة تَحيك العناكب لها مقرات في كل ركن وزاوية ويصفر الهواء في ضلام أرجائه الباردة، أما القصر الذي غادرتِهِ أنتِ فتنبت الكروم على جدرانه وتزقزق العصافير في ثناياه وسنبقى فيه نلتقط صور الـ"سيلفي" لتكون كل واحدة منها صورة بمليون قوس قزح.

Sunday, February 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة : العاصفة

قصاصات وقصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/العاصفة/

تداعب مخيلتي  منذ مدة فكرة استطلاع للرأي تشارك فيه زوجات القسوس من مختلف الأعمار في البلاد العربية عن المهنة التي كن يتمنين أن يعمل بها أزواجهن. لا أعني أن أُحِدّ خدمة القسيس بأبعادها اللانهائية في مجرد كونها "مهنة"، إلا أننا لو تناولنا الواقع بالسؤال المعتاد "ماذا يعمل زوجك؟" تكون أجوبتنا جميعا كزوجات قسوس: "زوجي قسيس" بكل بساطة وتعقيد في آن معاً.

كلما سألت نفسي هذا السؤال وجدتني أختار إجابة مختلفة بحسب عوامل متعددة وعندما عاودني السؤال خلال الشهر المنصرم كانت إجابتي خاضعة لظروف "الطقس" وأعني به الأرصاد الجوية وليس الطقس الكنسي فنحن ننتمي للكنيسة المصلحة التي لا تخضع لطقس عبادة معين لكننا خاضعون ككل سكان هذه الكرة الأرضية للتقلبات المناخية حيث كان لنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نصيب الأسد مع مطلع هذا العام بعواصف ضربت منطقتنا كالعاصفة "زينة" و العاصفة "هدى".

مع اقتراب شهر شباط / فبراير الذي يتوسطه عيد الحب، عيد الـ"فلانتاين"، تمنيت لو كان زوجي خبير أرصاد جوية كبير الشأن كي تكون هديته لي عاصفة يسميها بإسمي فأسمع تلك الجملة في ختام موجز الأنباء: "أما عن الأحوال الجوية فمن المتوقع أن تصل العاصفة "رهام" يوم غد يرافقها سحب كثيفة وهطول للثلوج في المرتفعات وأمطار غزيرة في المناطق الساحلية". كانت فكرة ساحرة أعجبتني لكنني سرعان ما أفقت من أحلام اليقظة لأرى أن زوجي لا يزال قسيساً وأننا كأسرة لا نعير اهتماما يُذكَر لعيد الحب، لكنني لازلت أتمنى وجود عاصفة تحمل إسمي.

ماذا لو كان بإمكاني صناعة عاصفة رهامية تناسب شهر الحب؟ لا بد لي في البداية من التعرف إلى صفات العواصف والأسباب التي دفعت خبراء الأرصاد في البلدان العربية إلى إطلاق أسماء أنثوية عليها إذا أنه من المؤكد وجود صفات مشتركة بين العاصفة والأنثى.

مما لا شك فيه أن العاصفة قوية، جبارة، تحدث تغييرات مناخية بعيدة المدى منها السلبي كتحطيم الأشجار وشلل الحركة المرورية ومنها الإيجابي كارتفاع منسوب المياه في الأنهار للقضاء على جفاف قاسٍ في موسم شتوي سابق. من صفات العواصف أيضا أنها متقلبة المزاج فحتى أمهر خبراء الطقس لا يمكنهم التوقع الدقيق لمسار العاصفة وشدتها وحدة الدمار الذي قد تتسبب به كما يصعب تحديد الخير والارتواء الذي ستحمله العاصفة لجبال وأنهار وآبار فيمتد تأثيرها إلى كل أشكال الطبيعة الحية بما فيها الإنسان. فبمجرد مرور العاصفة في حياتنا ستكون الدنيا حتما بعد العاصفة مختلفة تماما عنها قبل العاصفة.

في كل حديث عن العواصف وقساوة الشتاء يستحيل علي أن أُنكر واقعنا الإنساني المؤلم في عام 2015 ونحن نرى أعداد اللاجئين والنازحين الذين شردتهم الحرب وتركتهم بلا مأوى في تزايد مستمر. لن أتعامى عن قصص الموت والمرض الذي يدبّ في مخيمات اللجوء هذه السنة أقسى مما مضى ويدفع بالإنسانية إلى الوقوف خجلى لتقصيرها وأنانيتها. لكنني لو كنت أنوي أن أتحول إلى عاصفة فأمامي الخيار أن أنتقي من الصفات المذكورة تلك أنبلَها وأروعَها فأعيشَهُ في واقعي الشخصي والأُسري والكنيسي وأبدأَ موجة من العواصف الأنثوية تتبعُني إليها كل إناث منطقتنا المنكوبة فنرى شهر شباط / فبراير 2015 وقد غزَتْه العواصف من كل حدب وصوب. عواصف تتحدى المألوف، عواصف تُحدث تغييرات لا رجعة بعدها، عواصف تتفاءل برقم الشؤم 13 لأنها ستعيد إحياء الأصحاح الثالث عشر من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس فنرى المحبة التي لا تسقط أبدا وقد تساقطت زخاتٍ زخات لتغذي آبارنا المشققة فتفيضَ حياتنا أنهار حب على مدار العام. ومع منتصف الشهر سأتوقع سماع زوجي يعايدني قائلا: "كل عام وأنت عاصفتي"!


بدون تعليق: ياسمينتنا (التي اكتسبت شهرتها من هذا المقال here) تابعت العواصف من شباكنا الاسكندراني ثم دخلت سباتها الشتوي وتركتنا ننتظر الربيع هذا العام بشوق أكبر من أي عام مضى لأننا نسقي أوراقها الذابلة بإيمان أنها لم تمت ولكنها ستعود إلينا مع اقتراب عيد ا لأم

أعتذر لقراء مجلة "أعمدة الزوايا" عن توقفي في نشر مقالات "مذكرات زوجة قسيس شابة" في المجلة وذلك لأسباب شخصية آثرت الاحتفاظ بها لنفسي، ولكن هذا العنوان بات كأحد أبنائي منذ اللحظة الأولى التي لمع بها في ذهني فكتبته بسطوره الأولى، عنواني الذي سكنني ويرجوني ألا أتخلى عنه ويدفعني أن أكمل كتابة مذكراتي من هذه الزاوية.

1 Corinthians 13 - in ARABIC

جميع الحقوق محفوظة لمدونة رهاميات