في بيتها الاسكندراني الذي أجهل كم بيتا سكنَت قبله في
مدن مصرية شتى أمسكَت بيدي تقودني من غرفة لأخرى تعرّفني إلى مهمة كل غرفة بما فيها
المطبخ، فهذا المنزل المتواضع صغير الحجم كبير الحب، هو قلعتها التي استقرت بها
الحال فيها بعد سنوات كفاح التهمت شبابها كأم لخمسة أبناء تزوجوا جميعا وأنجبوا
لها أحد عشر من الأحفاد. غرفة الجلوس الممتدة إلى غرفة الطعام نالت نصيب الأسد من
الوقت لكثرة ما فيها من براويز وصور أصرّت طنط إيلين أن تحكي لي مقتطفاتٍ عن كلٍ منها
فتنوعت التفاصيل ما بين قصص الأبناء والأحفاد: "دي صورة فلانة يوم فرحها...
دول بنات فلان لما كانوا صغيرين...". استوقفتني صورة بالأبيض والأسود فتناولتُها:
"تعالي نقعد" وجدتُني أريد معرفة المزيد عن تلك العائلة بأفرادها الاثني
عشر. يجلس الأب في منتصف الصورة مرتديا طربوشه و إلى يمينه كرسي الأم وإلى يساره
إبنه البكر ويقف الابن والابنة الصغيران ما بين الكراسي الثلاث. أما الصف الخلفي فيقف فيه
باقي الأبناء بالتناوب ما بين ذكر وأنثى وينظر الجميع إلى عدسة الكاميرا نظرة
يعلوها رضى وسعادة ارتسمت بنيّة ابتسامات خجولة على بعض الوجوه.
رغم قِدَم الصورة وتدرّج ألوانها بظلال الأبيض والأسود إلا
أنه لا يخفى على الناظر نظافة وترتيب وأناقة عالية المستوى في الملابس والأحذية
وتصفيفات الشعر لكل فرد فيها. "ماما هي اللي مخيطالنا هدومنا دي" صرّحت
لي إيلين بكل فخر أن زوجة القسيس يونان كانت ماهرة في التفصيل والخياطة حيث تنوعت
إبداعاتها ما بين بِزّات رجالية وأطقم أنثوية شبابية وفساتين بناتية وقمصان بكل
المقاسات والتصاميم، ارتداها خمسة صبيان وخمس بنات مع والديهم.
قلت وكأنني قد استسلمتٌ لتعويذة هذه الصورة:
"هالصورة إسمها صورة المليون دولار" فرأيت طنط إلين تطلق ضحكة من قلبها
الطفولي البريء وترفع يدها تغطي فمها بخجل وتميل برأسها ناحية اليمين كعادتها عند
الضحك. أعادتني قهقهتُها إلى أرض الواقع فسألتُها أي الفتيات في الصورة هي. أخبرَتني
أسماء الجميع واحدا واحدا شارحة لي أماكن سكنهم جميعا ومن منهم يقطن بيته الأبدي. لم أدرك وقتها أنني سأرى هذه الصورة في المستقبل مرتين ثانيهما ستكون بعد رحيل طنط إيلين.
خلال السنوات التي تلت ذلك اللقاء الأول بـ"صورة
المليون دولار" التقيتُها ثانية يوم دخلتُ بيت طنط إيلين المكتظ في ليلةِ عيد. بعد
أن سلّمتُ على الجميع سألتُ عن الصورة: "وحشِتني". من الطبيعي أن يشتاق
المرء إلى صورة تحكي أبلغ الكلام بعلو الصوت، تأخذ بيدك إلى نقطة ما في تاريخ مصر
الحديث وتقف بك هناك حيث يتجمد الوقت والكلام وتنطلق المخيلة في تصوير فيديو
وثائقي لحياة تلك العائلة فترسم ملامح يوم عادي من أيامهم غير العادية. رأيت القس
يعظ من على منبر الكنيسة حيث تجلس زوجته في الصفوف الأمامية بكفيها المشبوكين
يرتاحان في حضنها الذي حبل وأنجب مرات قد تفوق العشر. زوجة قسيس جبارة مدبرة حكيمة
ورثت عنها طنط إيلين قبضة قوية كانت تمسكني بها وتشدني فأطبع قبلتين على خديها كل
مرة كنت ألتقيها لأشم عبير عِطرِها، أتراها ورثت أيضا النظافة والترتيب والأناقة عن
زوجة القسيس؟ جدة في مطلع الثمانين من عمرها تحرص على أن يكون شكلها أنيقا وجسمها
نظيفا كروحها المعطرة بعطر المسيح الزكي.
أدهشني في الصورة جرأة بعض الأبناء على الابتسام في وقت
ارتبط فيه ظهور التصوير الفوتوجرافي بتكشيرة ذات لونين كما أثار فضولي ذلك الانضباط بالأبيض والأسود ينتمي إلى سلسلة من التقاليد والأعراف التي حَرِصَت
العائلات الملتزمة آنذاك على ممارستها وتربية وتدريب أبنائهم وفقا لها. واليوم، ما
بين عصر الأبيض والأسود وعصر الصور الذاتية، الـ "سيلفي"، يقبع جيل بأكمله هو
جيل تيتا إيلين. كبر هذا الجيل مع صور الأبيض والأسود ووصل به السن إلى عام 2015
ليشهد تسونامي السيلفي. آباء وأمهات غدو أجادا وجدات فعاصروا حفيدة كابنتي ذات
الأعوام الثلاث تمسك بكاميرتها البلاستيكية وتلتقط لنفسها صورة "ثيلفي"
ثم تدعوك قائلة: "ناخد ثيلفي ثوا؟". هذان النوعان من الصور أشبه بغلافي
كتاب يحتضنان حياة كحياة طنط إيلين، كتاب لقصة أنجبت فغدت قصصا لأناس مروا في حياة
تلك السيدة التقية وعرفوها حق المعرفة فأدركوا من خلالها معنى الإرث وومعنى الصلاة ومعنى الإيمان ومعنى
التفاني ومعنى التاريخ الذي ينبض في العروق ويسري في الدم المصري كنهر النيل يبعث
الحياة أينما سار.
كنت في حيرة دائمة عن الكيفية الأنسب لمناداة صاحبة صورة
المليون دولار، فقد وقعتُ من حيث السن ما بين جيل أولادها وجيل أحفادها فتارة لقبتُها
"طنط" وأخرى "تيتا"، هي طنط لأنها تكبر أبي بأربعة أعوام فقط، وأنا أصغر إخوتي سنا، لكنها تيتا لأنها كانت الشخصية الأقرب إلى شخصية
جدتي، فحازت بمكانة في قلبي تعيد إليه ذكرى "تيتا بديعة" فأعجبتني فكرة
أن يكون لي تيتا اسكندرانية ، وكلما كنت أجلب لها أبنائي مساء أيام الآحاد كي
يسلموا على "تيتا إيلين" في الكنيسة لم أكن دائما أشعر بأن هذا اللقب يقتصر
عليهم هم فقط ، فقد كان له طعمٌ حلوٌ في فمي أنا أيضا. كانت تعتبر أولادي أول
الأحفاد لابنتها الثانية فرأت فيهم بركة الجيل الرابع ولم تكن تشعر بالغيرة عندما
يركض ابني وابنتي لاستلام كيس "الفشار" الأسبوعي من "زيزي"
ويتغافلان عن إلقاء التحية عليها هي، لكنها في نفس الوقت لم تكن تشعر بأي حرج من
أن تناديهم بأسمائهم إلى أن يسمعوا صوتها وتأنيبها: "مش هاتسلموا عليَّ؟"
فهي معهم على سجيتها، وكأنها تقول لنا: "محدش له دعوة، دول أحفادي
برضه".
"سألِت عليكي يوم الأحد"، قالتها لي "بلبل" ثاني أصغر
بناتها والدموع تنسكب من عينيها أثناء تلقي الأسرة العزاء يوم الثلاثاء الذي يليه
مباشرة فانتابني الصمت لأني كنت أعرف أنها فعلَت، حتى لو لم تكن قد قالت لابنتها
ذلك فأنا أعلم مدى حبها لي فهي واحدة من أولئك الأمهات الطماعات المدمنات، رغم
امتلاء بيتها بالأولاد والأحفاد إلا أنها كانت تصر أن تدعونا إلى بيتها المزدحم في
العيد منذ أن انتقلنا أنا وزوجي إلى العيش في الاسكندرية، مدينة ليس لنا فيها عائلة
أو أصدقاء أو أقارب. كانت دائمة الطمع بالمزيد من الأبناء والأحفاد لأنها مدمنة حب
ومدمنة عطاء رغم امتلاء حضنها بأغلى كنوزها لكنها كانت تجمع في ذلك الحضن المزيد، فهو
يتسع للكثير ومن الخسارة أن يذهب متسع المكان ذاك سدى. امتلكَتْ بيتاً ذو جدران
متحركة تفسح لك مكانا مع كل ابتسامة من أفراد الأسرة، وحضناً ذو دفء يقتسمه الجميع
ونشاركهم نحن الأربعة به دون أن يشعر أحد، كبيرهم وصغيرهم، بأن حصّتَه مُنتقصة. هذه
كانت طنط إيلين بالنسبة لي ولعائلتي الصغيرة وهكذا ستبقى ذكرى طنط إيلين في حياتي
كجزء من عائلتها الكبيرة.
"رح أشتاقلك يا تيتا" فامثالك يتركون فراغا
كبيرا لأن قصرك كان كبيرا،الفارق أن القصر العادي عندما تُغادره الملكة تَحيك
العناكب لها مقرات في كل ركن وزاوية ويصفر الهواء في ضلام أرجائه الباردة، أما
القصر الذي غادرتِهِ أنتِ فتنبت الكروم على جدرانه وتزقزق العصافير في ثناياه
وسنبقى فيه نلتقط صور الـ"سيلفي" لتكون كل واحدة منها صورة بمليون قوس
قزح.