Sunday, March 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة: القبعة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/ القبّعة /

"أرني قبعتك، أقول لك من أنت" يمكن أن تكون هذه الجملة لعبة لطيفة للأطفال تساعدهم على تخمين مهنة الشخص إذا رأوا القبعة التي يرتديها. في بلادنا العربية لا نعير القبعات أهمية تُذكَر إلا إذا كانت من متطلبات المهنة وعدم ارتدائها يترتب عليه نوع من أنواع العقاب أو التوبيخ الوظيفي. أنا شخصياً أحب القبعات منذ الصغر لكني لجمت نفسي عن شرائها فاكتفيت بأن أقتني منها أبسط نوعين وأهمهما على الإطلاق، واحدة صوفية تقيني برد الشتاء وأخرى قطنية مزودة بحافة أمامية للحماية من الشمس في شهور الصيف الطويلة. لكني كنت أتمنى لو كان بإمكاني استخدام المزيد من القبعات وارتداؤها في الشارع، قبعات من القش تزينها الورود للربيع، قبعات مخملية بألوان ونقوش تدعوني كي أحلم بشتاء دافئ، وغيرها من قبعات  أحلامي، لكنها فكرة نظرية لن تتحقق لأنها ستعني المزيد من الاختلاف في المظهر العام وبالتالي ستجذب نظرات الاستهجان وحفنة كلمات غير لائقة أنا بغنى عنها في شارعٍ وزمانٍ قرّرا معاداة الجمال.

تحول حبي للقبعات إلى حب دفين صامت عاود الظهور إلى السطح عندما أرضَعتُه لأولادي دون أن أدري، فكبروا على حليب الببرونات وحب القبعات. يعشق ابني قبعة الإطفائي التي اشتريتها له رغم إلحاحه على إيجاد واحدة حمراء بدل السوداء تلك، كما يحلم أن يقتني خوذة يستخدمها لركوب الدراجة، أما ابنتي فتتشاجر مع أخيها حول ارتداء قبعة الطباخ وهما يلعبان بقطع مطبخهما البلاستيكية وأفكر أنا في القبعة التالية التي سأشتريها لهما واحتمالات وإمكانية خياطتها بدلا من تكبد عناء البحث ومصاريف شرائها جاهزة.


حتى وإن ظننت لوهلة ما أنني لا أقتني الكثير من القبعات في حياتي لكن أراني أرتدي واحدة مختلفة كل يوم، لا بل عدة قبعات تتناوب في الهبوط على رأسي مع توالي ساعات النهار. تارة أرتدي قبعة الطباخ لأعد طعام الإفطار وشطائر المدرسة والحضانة للأولاد وطوراً أرتدي قبعة السائق كي أوصلهما صباحا أو أخذهما في نزهة، وتلك القبعة عادة ما تعلوها قبعة المهرج لأنهما غالباً ما يطلبان أن نلعب لعبة مسلية أثناء مشوارنا.  

طويلة هي تلك الساعات التي أرتدي فها قبعة الشغالة فأرتب وأنظف وأغسل وأقوم بكل ما يحتاجه هذا المكان ليتحول من منزل إلى بيت حميمي يشهد أيامنا الأسرية وندعو له أحباءً وضيوفاً كلما تسنى لنا ذلك. قصيرة هي تلك الساعات التي أرتدي فيها قبعة العمل وأسمعُها تعاتبني لطول انتظارها لي، هي قبعة تقبع على رأسي وتمتد إلى قلبي لأني لونتها بمهنة أحبها وأرعاها في مرحلة الحلم الجنيني تلهمني أفكارا جديدة في مشروعي وتساعدني على الإبداع والابتكار كما تربِتُ على كتفي أيام الفشل، وما أكثرها في الآونة الأخيرة، لكنها قبعة تقيني وأد حلمي وهو في المهد. برفقة قبعة مشروعي تمضي ساعة وكأنها ومضة عين إذ يحين موعد ارتداء قبعات الفترة المسائية ومنها قبعة الشرطي لو فكرت في أن أطأ الشارع بصحبة أولادي حيث يقع علي واجب حمايتهما والانتباه إلى محفظة يدي أيضا، وقبعة الأستاذ التي أتخيلها أشبه بطربوش أحمر ورثناه مع جحافل جنود الاحتلال التي توالت على بلادنا فيتيح لي طربوشي "بريستيج" المدرّسة المسؤولة عن إتمام إبني لواجباته المدرسية كي يتسنى له اللعب مع أخته قبل خلودهما إلى النوم. لن أتغافل عن قبعة الممرضة التي تهُبّ إلى أخذ مكان أي قبعة أخرى لحظة الطوارئ فأداوي أية إصابات وأطبع بعض القبل على "الواوا" حقيقية كانت الإصابة أم مزعومة وأبقي قبعة المحامي بالقرب مني لحل الخلافات وفض النزاعات الحتمية والحكم في أي قضية.

هناك تلك القبعات آنفة الذكر نرتديها داخل المنزل وخارجه لا يراها سوانا لكني اكتشفت قبعة مختلفة خاصة بزوجات القسوس يراها شعب الكنيسة مزينة رؤوسهن. هي أقرب إلى غطاء الرأس الذي ألِفناه في صور القديسين منها إلى قبعة مزركشة، فيتوقعون من زوجة القديس أقصد القسيس أن تكون كالنسمة، لا صوت لها ولا رأي، إلا إذا انضمت لفريق الترنيم أو وافقت على كل الاقتراحات التي تتلقاها وبالتالي عليها نقلها إلى زوجها بناء على طلب المتكلم. وبما أنها ترتدي قبعة العصمة عن الخطأ فأولادها أيضا يتحتم عليهم اتباع العفة ضد أية "شقاوة" طبيعية تعتبر "حلالاً" لكن لأقرانهم وليس لهم. فالتطبع بأخلاق الملائكة لأمر حتمي فيتخيل البعض أن أولاد القسيس لهم أجنحة متناهية في الصغر مثبتتة إلى ظهورهم تماما كقبعتي القابعة على رأسي. وأتمزق أنا فور انتهاء الخدمة المسائية أيام الآحاد ما بين رغبتين، الأولى تتمثل بإلقاء التحية على الناس والتحدث إليهم ومعرفة أخبارهم وهمومهم فأبدو بالتالي أماً مهملة تأتيها الشكاوى من كل حدب وصوب بخصوص تصرفات أبنائها المنتشرين في أرجاء الكنيسة يحيكون الخطط والدسائس فيتحول منبر الكنيسة إلى مسرح الأحداث بقوته الجاذبة لكل من لم يتجاوز سنه ثمانية أعوام. أما الرغبة الثانية فهي أن أشرف بنفسي على طريقة لعب أبنائي وكلامهم مع أصدقائهم فأهمل الناس بهمومهم وأفراحهم وكأني أنزع عني عنوةً قبعة زوجة القسيس وأرتدي "كاب كوول" يخص جليسة الأطفال المراهقة كما تبدو في الأفلام الأمريكية.

قبعات كثيرة لا يتسع المكان لذكرها الآن فبعضها لا إسم له ولا شكل لذا قد يصعب على القارئ تخيله إذا لم يتمكن من أن "يقيس" واحدة منها ويرى نفسه في المرآة ولو لمرة في حياته بعد تجربة تلك القبعة. من ضمن القبعات الغير مرئية أخص بالذكر قبعة أسميها قبعة الـ "ماما" تأتي بأشكال لا نهائية وأحجام شتى ترتديها أمهات البنات وأمهات الصبيان وأمهات الأبناء الوحديدين وأمهات الكثير من الأولاد وأمهات عاملات وأمهات جدّات وأمهات يعتنين بأطفال ذوي احتياجات خاصة وأمهات لأزواج مسافرين خارج الوطن وأمهات أرامل وأمهات ودّعن أحد أولادهن على أمل اللقاء في الأبدية وأمهات تقدم السن بأهلهم فباتوا طريحي الفراش لتركض الأم في مضمار سباق الاعتناء بأبنائها وأهلها في آن معا... وإلى ما هنالك من تنوع "الماماهات" لتتنوع معهن قبعاتهن بحسب اختلاف الظروف والأحوال.

ومع حلول شهر آذار/مارس والاحتفال بالحادي والعشرين منه، أتمنى لو أمكنني أن أتقمص شخصية أشبَه بـ "ماما نويل" ربيعية فأشتري ملايين القبعات من طراز "قبعة الإخفاء"، لأوزعها على ملايين الأمهات فتحظى كل واحدة منهن بهدية عيد الأم على شكل قبعة ليوم واحد، ترتديها فتحصل على قسط من الراحة والهدوء، يوم من الاختفاء لا يراها فيه أحد فلا يطالبها أحد بأي واجبات أو مسؤوليات، فهي غير مرئية  ولها حق قضاء يومها كما تشاء سواء رغبت في كسل السرير أو صحبة كتاب أو فنجان قهوة مع "أنتيمتها" أو مشوار "شوبنج" أو زيارة "كوافير" (شرط ألا تنسى نفسها وتنزع القبعة عند الكوافير). من خصائص تلك القبعة أنها ستكون ذاتية التحلل وتختفي مع حلول اليوم التالي كسحر ساندريلا بعد أن تكون الأم قد جددت نشاطها وشحنت طاقتها حتى وإن لم ولن يكفها يوم واحد إلا أنه على الأقل يندرج تحت مبدأ "أحسن من بلاش" فنرى كل الأمهات يبدأن بفرح عاما جديدا من الأمومة، عاما جديدا من القبعات. 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة رهاميات

2 comments:

  1. This is a lovely piece. Teslam eidek.

    ReplyDelete
    Replies
    1. Thank you Dr.Soueif دي شهادة أعتز بيها من كاتبة كبيرة زي حضرتك

      Delete