قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.
مذكرات زوجة قسيس شابة
/ الاعتياد /
"ما عم أفهم عليكي، مو عاجبك شي، أخدتك على أحلى أماكن بكل نيويورك
ومافي أي تعبير أو رد فعل عندك بالمرة" وقفَتْ جملة العتاب تلك معلقة فيما بيننا ونحن
نقف معلقين في الطابق رقم 107 من مبنى التجارة العالمي. لم يكن أخي يصرخ في وجهي ولكنه كان محبطاً للغاية
فهو وزوجته من قاما بدعوتي لزيارتهما في "التفاحة الكبيرة" عام 2000 وكرّسا
لرحلتي كل ما تتطلبه من حب ووقت ومال، وها أنا غير ممتنة أقف كالتمثال على قمة
أعلى مبنى في العالم بين الجدران الزجاجية لذلك الدور العلوي أنظر إلى أسفل بوجه
خال من التعبير وكأنني أبحث عن جورب في درج خزانتي.
عندما تخيلت شكلي إذا ما نظرت إلى نفسي في المرآة أدركت ما قاله أخي وعرفت
السبب: "أنا مو فهمانة شي، عقلي ما عم يستوعب" حالة الذهول تلك تصيبنا
عندما تعجز أدمغتنا عن هضم المعلومات المرسلة إليها، فها هي السيارات تحت أقدامي
تبدو كعلب الكبريت والناس بالكاد يمكن رؤيتهم كالنمل الذي يتحرك في فيلم بالتصوير
البطيء، نقط سوداء تتقارب وتتباعد أشبه إلى الخيال منها إلى الحقيقة، فأنا كنت
هناك في الأسفل منذ بضعة دقائق قبل أن نركب مصعدين مختلفين وأشعر بالضغط يحدث طقطقة في أذني فأحاول إقناع نفسي بأن المشهد واقعي وغير
"مفبرك".
كنا قد زرنا في اليومين السابقين تمثال الحرية حيث صعدت إلى تاج
التمثال ورأيت روعة "ستاتن أيلاند" من شباك في أعلى السلم الحديدي الضيق الذي يتسع لشخص واحد فقط، ضيق المكان والنقص الحاد بالأوكسيجين كاد أن
يخنقني حرفيا لكنه جعل حواسي يقظة تتلقى المعلومات على جرعات. ثم زرنا مبنى الـ"إمباير ستيت" الذي كان أعلى مبنى في
العالم سنة 1931، الفارق ما بين البارحة واليوم أنني من شرفة الطابق السادس والثمانين في المبنى الأول نظرت إلى أسفل وقلت "وااااااو"
فقد كان علوه ورهبة المنظر من الشرفة المتفوحة مع برودة وسرعة هواء شباط/فبراير تندرج ضمن ما يمكن
لعقلي أن يستوعبه ودخلَت هذه المشاهد حيز إدراكي فاستمتعتُ بجمال المنظر وامتصّتهُ حواسي كالإسفنجة.
عندما فهم أخي كل هذا عرف أنني ممتنة لهديته هو وزوجته فهي فرصة رائعة قد لا تتكرر في حياتي لأن قضاء أسبوعين كاملين في نيويورك وتحديدا في
منهاتن لهو حلم لم يجرؤ خيالي أن يضيفه إلى قائمة أمنياتي، مدينة مجنونة بكل ما فيها من تنوع وازدحام ومترو وألوان وشهرة. عندما انتهت زيارتنا لِما يسمى "قمة العالم" وعند مغادرتنا المكان
قدّمَتْ لنا موظفة الاستقبال صورة التقطها لنا المصور أثناء الدخول فهو يفعل هذا مع
كل الزوار كي يكون لهم الخيار في شرائها عند المغادرة لكن الصورة لم تعجبنا وأحسسنا أنها لا تستحق المبلغ المطلوب. لم نكن نعلم آنذاك أنه بعد سنة من الزمان
سيُمحى هذا المبنى ويُسوى في الأرض وإضافة لآلاف الأرواح التي ستخسرها البشرية، سنخسر نحن فرصة تكرار تلك المغامرة أو حتى
الاحتفاظ بصورة تذكارية لها. لكننا احتفظنا بلحظة صدق فهِمنا خلالها كلانا لُبّ
المشكلة وهذا ما ساعدنا في الأيام التالية على استقبال المعطيات قطرة قطرة ما لبث بعدها أخي أن يعلن لي أنني غدوت قادرة على التجوال في المدينة بمفردي وأطلقني لأقضي أيامي في التخطيط والتحرك مستخدمة شتى أشكال المواصلات المتاحة تنقلني ما بين المتاحف والمسارح والحدائق وكل ما يخطر ببالي من مغامرات نيويوركية لن تمحى من ذاكرتي.
بعد خمسة عشر عاماً وجدت الموقف ذاته يتكرر ولكن بصورة مختلفة هذه المرة
فخالتي التي تعيش في دمشق تطمئننا عنها كل فترة وتحكي لنا أهوال الحرب هناك، فمن
بيتها في القصاع يمكنها سماع القذائف وأصوات الاشتباكات الحاصلة في ضواحي دمشق
وخاصة منطقة جوبر لقربها من ساحة العباسيين وكم من المرات التي كنت أكلمها بها عبر سكايب
وأرى صورتها تحدثني فأسمع صوت قذيفة أو انفجار أظنه اصطدام أوعية في المطبخ لأرى
اللون يختفي من وجه خالتي فتشرح لي أنها قذيفة ويبدو أنها قريبة جدا هذه المرة.
حاولت مرات عدة أن أفهم طريقة حياة السوريين تحت رحى الحرب لكنني عجزت، فحالة
التأقلم تلك والتعايش مع الخوف والموت حالة غريبة عني لم أجربها من قبل فهي تفوق إدراكي ولكنها
باتت الطريقة الوحيدة للحياة بالنسبة لخالتي ولملايين السوريين. بعد أن امتد
النزاع شهورا تحولت إلى سنوات وصلت إلى الأربع، بات من المحتم على خالتي وخالي وعمي وأصدقائي والجميع أن يعيشوا حياتها بشكل شبه عادي رغم كل ما يحدث من حولهم.
في صباح إحدى العواصف شديدة البرودة في الاسكندرية وبعد أن أعددتُ حقائب
أولادي وملأتها بالطعام ومستلزمات المدرسة والحضانة قررُت أن أبقيهم في المنزل
فالجو شديد البرودة في الخارج ومن الأفضل ألا نخاطر، ثم فكرتُ بخالتي وكتبت
لها رسالة على الفيسبوك لأطمئن على صحتها "ماشي حالكون خالتو ماري بهالبرد
والتلج بالشام؟... الله يحميكون" قرأتُ تلك الكلمات مرة أخيرة قبل أن أضغط زر
الإرسال وضحِكْت. رسالتي جاءت بعد بضعة أيام لم أطمئن خلالها على خالتي، فوجدتُني أكتب لها عن
الطقس لا عن الحرب! الطقس أمر أفهمه وأقول عنه "واااااو" أما الحرب فأرمقها بنظرة بلهاء خالية من التعبير لأنها تفوق إدراكي.
أنا أعرف أن تساقط الثلوج في دمشق
أمر محبب لكن الاستمتاع يستمر يوماً واحداً إذ أن الثلج الطري الذي يُحدث صوت قرمشة
محببة تحت أقدامنا سرعان ما يذوب خلال النهار ويتجمد ماؤه خلال الليل ليصحو
الدمشقيون على شوارع زلقة وأرصفة خطرة كساها الصقيع بطبقة كريستالية غير صالحة
لحركة السيارات أو السير على الأقدام فتمتلئ غرف طوارئ المستشفيات بحالات الكسور
جراء الانزلاق والسقوط أرضاً إضافة إلى الإصابات الأخطر خاصة إصابات الرأس التي تؤدي
إلى نزيف في الدماغ وما إلى هنالك من تداعياتٍ لثلج فرحنا لحظة هطوله فقط والتقطنا
صوراً لدمشق البيضاء. سيناريو ألِفتُهُ في مدينتي منذ الصغر، أما تلك المسماة حرباً
فأنا لا أعرف أبجديتها بعد، حتى وإن اجتاز آخرون كخالتي دروس محو الأمية فأنا لا
أزال على جهلي واندهاشي.
الاعتياد على الحرب أمر أستغربه، فالأمور الكبيرة الصادمة، سواء السلبي
منها أو الإيجابي، يجب أن تبقى صادمة لنا تجلب حزناً عميقاً أو تحمل فرحاً غامراً،
أما أن نعتادها فهذا أمر محزن. أن نعتاد الحرب أمر محزن لأنه بعيد كل البعد عن
المجرى الطبيعي للحياة، كما أن اعتياد مغامرات الحياة أمر محزن فهو يفقدنا لذة الاستمتاع
بطعمها.
في هذه الشهر من عام 2015 نحتفل بعيد القيامة وهو ذكرى انتصار المسيح على
الموت ليعطينا رجاءً في حياة أبدية ويقيناً بأن موتنا لن يكون نهاية القصة فهناك
عزاء وهناك بقاء. البقاء لله في حياتنا على الأرض ولكن عندما نصل محطتنا الأخيرة
فهناك لن يكون موت لأوراح أبدع الخالق في تكوينها وقصد لها أن تدوم إلى الأبد فلا
تعرف الفناء طالما هي برفقته. هل هناك ما هو أروع من هذه الحقيقة التي نؤمن بها؟
ومع ذلك فقد اعتدناها وباتت أمرا مُسَلّماً به نضعه على رفوف حياتنا إلى أن يموت
شخص عزيز فنُنزِلُ ملفّ الأبدية من على الرف ونتصفحُهُ لنجد فيه عزاءً لقلوبنا المتألمة
ثم نغلقه ثانية ونعيده إلى مكانه. نشاطٌ تكرره عائلات مسيحية كثيرة بين الحين
والآخر لكن عائلة القسيس تكرره أضعافاً مضاعفة، إذ أن وفاة أحد أعضاء الكنيسة قد
تعني الكثير لأسرة الراحل ويقل معناها بالنسبة لآخرين عرفوه من بعيد، لكن القسيس ليس
عنده تمييز، فالجميع هم أسرته، الكنيسة بأسرها هي عائلته الكبيرة الممتدة إلى
كنائس أخرى ومحافظات عدة وبلدان مترامية الأطراف.
إذا كنا مضطرين على اعتياد الألم
كي نتمكن من الاستمرار في الحياة على مضض ونحافظ على صحتنا العقلية والنفسية فصلاتي ألا نعتاد القيامة لكي تبقى هي الخبر السار
لنا صباح العيد، كما في ذلك صباح كل يوم عند شق الفجر باكر نركض كالمريمات، تمرينات
رياضية صباحية مفيدة لأجسامنا، حاملات الطيب ولكننا على خلافهن نعرف ماذا ينتظرنا
"صباح الخير... ربي وإلهي" إذ لنا فيه حياة ولنا معه يوم جديد.
قد نركض
باكيات في بعض الأيام وعندها سنضع إصبعنا في يديه وفي جنبه لأنه صباح مظلم نعاني
فيه من حزن أو شك أو اكتئاب لكن ذراعاه ستكونان ممدودتين في انتظارنا مستعدتين
لاحتضان شكوكنا. قد نركض ضاحكات في أيام أخرى نجتر سعادة يوم سابق حمل لنا أخبارا سارة عن أحباء لنا فنرتمي عند قدميه نطبع عليها قبلات الامتنان.
صلاتي في أول أيام
شهر نيسان/أبريل ألا نكذب على أنفسنا ونقول لها بأن القيامة أمر عابر بل أن نهديها هدية الصدق بوعد قلبي ألا نعتاد
القيامة بل أن نردد ترنيمتها مع كل صباح "إلهي حي".
جميع الحقوق محفوظة لمدونة رهاميات
No comments:
Post a Comment