Friday, May 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة: الانتظار

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الانتظار/

تسعة أشهر مدة طويلة جدا كي تكون فترة الحمل لأنثى الإنسان. هذا ما كنت أعتقده لسنوات طويلة قبل أن أتزوج وكلي أمل أني لو تزوجت يوما ما ورزقني الله بأطفال سيتغير رأيي. وهذا ما حصل فعلا إذ بمجرد أني علمت بأني حامل بابننا الأول وبدأت أيام وأسابيع الانتظار تغير رايي ولكن ليس بالاتجاه الذي كنت آمل فالتسعة شهور بالنسبة لي كانت في الحقيقة تسعة دهور.

نظم الجنين خلال الجزء الأكبر من سكناه رحمي بطولات لا نهائية في كرة القدم والجمباز وتولت لوحة الهرمونات في جسمي مهمة الإعلان عن فعاليات أخرى كالغثيان ونزيف الأنف وخدر الذراعين وانتفاخ القدمين والكثير الكثير من التسالي لتضيف نكهة "اللانهائية" إلى انتظاري. كنت أنتظر بصبر وصول آخر أسبوع في شهر أيار/مايو 2009 لينتهي انتظاري ذاك، إلا أنه عندما انتهى فعلا وتتوج بوصول ابني فوجئت بولادة انتظار جديد، أو بالأحرى سلسلة انتظارات خاصة بهذا المخلوق الصغير الذي وصل إلى عالمنا للتو. أول رضعة، أول تغيير حفاض، أول ابتسامة، أول وجبة، أول سن، أول خطوة، أول كلمة... سلسلة طويلة من حبات اللؤلؤ تتدحرج واحدة تلو الآخرى بفوارق زمنية قد تقصر أو تطول.



لقد كنت يوما ما فتاة تكره الانتظار بكافة أشكاله. أكره انتظار أن أنهي واجباتي المدرسية كي أبدأ اللعب ومع ذلك كنت أحرم نفسي من اللعب فور عودتي من المدرسة لأن الواجبات أهم ويجب إنهاؤها أولا. كنت أكره انتظار موعد درس الموسيقى في ممرات المعهد العربي للموسيقى بدمشق حيث تندمج أصوات الآلات المختلفة الخارجة من خلف أبواب غرف التدريس والتدريب وأنا أنتظر، ومع ذلك كنت أحرص على أن أصل قبل موعد الدرس لأني أكره التأخر وعدم الالتزام.

كنت أكره انتظار انتهاء المدرسين والمدرسات من تصحيح أوراق الامتحانات حتى وإن كنت واثقة من النتيجة الجيدة التي ستحجز لي مكانا على لوحة الشرف بين باقي المتفوقات في المرحلة الاعدادية والثانوية في مدرسة راهبات المعونة الخاصة بدمشق.

دقائق وساعات وأيام تتمطى أمام عيني بكل استفزاز لتعلمني فن الانتظار في سن مبكرة لأنني سأحتاج تلك المهارة حتى آخر لحظة في عمري لذا وجب التدريب المبكر بداية من أتفه الأسباب ومرورا بأحداث كبرى فتحت لي باب الحياة على مصراعيه في خبرات تنوعت ما بين الغربة والعمل والزواج والإنجاب والأمومة حيث أخفت لي كل مرحلة منها تشكيلة خاصة من الانتظارات الصغيرة والكبيرة.

 أنتظر أوراق القبول في الجامعة، أنتظر غرفة شاغرة في مكان سكني في الغربة، أنتظر عملا مناسبا يتفق مع أوقات محاضرات الكلية، أنتظر يوم التخرج وصورتي برداء وقبعة طالما حلمت بارتدائهما، أنتظر عقد عمل يضعني على عجلة الإنتاج بعد عودتي لبلدي، أنتظر دقات لم يألفها قلبي من قبل، أنتظر رؤية خطيبي الذي تفصلني عنه تذكرة طائرة، أنتظر انتهاء أمي من إضافة آخر خرزة في فستان زفافي الذي حاكته لي بنفسها، أنتظر المجهول في بلد جديد وعاصمة ثالثة تلونت غربتها بلون لم آلفه من قبل، أنتظر مغامرات السنوات الأولى من الزواج لأرى اختلافها الشاسع عما قرأت في كتب المشورة وعلم النفس، أنتظر انتهاء مهلة السنتين التي قررناها قبل التفكير في الإنجاب، أنتظر ذلك الخط الأحمر على عصى اختبار الحمل، أنتظر سماع صرخة الحياة إيذانا ببدء سيمفونية بكاء طفل اختار له الله بيتنا كمنزل ومستقر له، أنتظر صورة صبي في عامه الثاني يجلس ناظرا إلى أخته الصغرى نائمة على ركبتيه، أنتظر أياد صغيرة تلوح لي بالزي الرسمي على باب المدرسة صباحا وتعانقني ظهرا، أنتظر أنامل ممسكة بقلم رصاص ترتجف مع كل شخبطة وتصفيق... click here to read about my son's 1st day at school

أنواع الانتظارات لا حصر لها يختبرها صغيرنا وكبيرنا بغض النظر عن الجنس والجنسية لكنني اكتشفت مجموعة انتظارات خاصة بزوجة القسيس لها نكهات مختلفة عن تلك التي تختبرها باقي الزوجات والأمهات:

أنتظر أن يصلنا رد من الكنائس التي طلبت من زوجي رعابتها كي نحسم نتيجة الصلاة والتفكير الطويل لنتخذ قرارا في السفر أو الانضمام لكنيسة معينة.

أنتظر أن يتعرف إليّ أعضاء الكنيسة ويحبونني لشخصي ولذاتي لا لمجرد أنني زوجة فلان أو أم فلان أو الخادمة في الاجتماع الفلاني.

أنتظر أن يتعرف أولادي على أسرتهم الجديدة، أسرة لا يربطهم بها رابط دم أو قرابة لكنها أسرة أراد لهم الله أن يولدوا في أحضانها في سنة معينة ومكان معين وقد يتربون أيضا في كنفها أو كنف أسرة أخرى ننتقل إلى خدمتها.

أنتظر أن يكبر الأولاد قليلاً فأتمكن من العودة إلى صفوف جنود الخدام في الاجتماعات المختلفة وإلى صفوف المرنمين في الكورال وصفوف العازفين يوم الأحد وشتى أشكال الخدمة التي فطمت عليها لكن في بلدين وزمانين مختلفين وكأنهما حياتان أخريان يفصلني عن كل منها سنوات ضوئية من الأحداث والمتغيرات.

أنتظر عودة زوجي من زيارات رعوية وجلسات إدارية ومؤتمرات روحية لأجد نفسي في كل مرة وقد استسلمت تحت وطأة الإرهاق ومسؤوليات الأطفال والبيت أقوم بتفاصيلها منفردة فأخلد للنوم قبل أن أسمع صوت مفاتيحه تداعب قفل باب منزلنا.

أنتظر أجازة أسرية سعيدة نبتعد بها جسديا وذهنيا ونفسيا عن روتين وهموم سنة كنسية ودراسية طويلة وشتاء بدا وكأنه لن ينتهي فنطفئ قابس التشغيل لماكينات أجسامنا وعقولنا ونوقف الزمن ولو للحظة نقضيها نحن الأربعة معا بعيدا عن كل تلك الأثقال التي نجرها على مدار العام.

أنتظر نورا إلهيا يشق السماء وينزل إلي حيث أنا قابعة في ظلام وحدتي الحالك فيصلني بصورة ابتسامة أو ربتة كتف أو كلمة تشجيع تؤكد لي أن الله راض عن تقدماتي وذبائحي وتكريسي وتحملي حساب النفقة.

الانتظار علينا حق، وكل تلك الانتظارات ما هي إلا صور ميكروسكوبية عن انتظارنا الأزلي في شوق إلى ذلك اليوم الذي نستوطن فيه مستقرنا الأبدي مع باري الورى. فالسؤال لم ولن يكون: هل نحن ننتظر؟ وإنما السؤال الحقيقي هو: كيف نستثمر حياتنا أثناء الانتظار؟ 

جميع الحقوق محفوظة لمدونة رهاميات

2 comments:

  1. What an interesting and well written article! Keep writing while waiting!

    ReplyDelete
    Replies
    1. Thank you Rev.Riad for reading the article and for your encouraging words, will sure do so since it has become a survival technique for me.

      Delete