قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.
مذكرات زوجة قسيس شابة
/التجسُّد/
ماما: "ما ينفعش
يا رهام تكتبي "تجسّد خوفي" في المقالة، لأن المسيح وحده اللي اتجسد."
لازلتُ أذكر عندما قرأت هذه الجملة للمرة الأولى كم من الوقت استغرقتُ في محاولة استيعابها والغوص في معانيها. فقد كانت بالنسبة لي بمثابة السدّ الذي انفتح فأفرج عن مياهٍ متدفقة لم أكن أعي وجودها مُخزّنةً خلفَه. وبدأَتْ تتلاحق الصور في ذهني مع محاولاتي لِلّحاقِ بكثافتها وسرعة جريانها، فما كان بي إلا أن سارعتُ في تصنيفها وترتيبها وفقاً لجدولٍ يحفظ التسلسل الزمني لظهور تلك الأحداث والشخصيات والمواقف في حياتي في الماضي القريب والبعيد.
بدون تعليق: هذه شجرة
الميلاد في ساحة Rockefeller Center الشهيرة في نيويورك خلال موسم المجيء في ديسمبر 2017.
ويعود الفضل إلى أربعة أشخاص لولاهم لما كنت التقطتُ هذه الصورة أو عرفتُ أن هناك دائماً
أملٌ في تذوق لحظات من السعادة المُقطّرة حتى وإن طال الانتظار... شكراً وشكراً
وشكراً وشكراً... انتوا بتعرفوا حالكم... وشكراً لشخصين صغيرين تحمّلا غيابي عنهما
لأول مرة ولمدة طويلة نسبياً...
أنا: "ده صحيح
ان الله المتجسد كان في شخص المسيح بس، لكن فعل التجسّد بينطبق على أشخاص ومشاعر
وحالات... الخ"
ماما: "لأ،
احنا في إيماننا المسيحي بنؤمن ان التجسّد كان ليسوع بس، وما ينفعش يتقال على أي
حاجة أو حد تاني انه اتجسد. قولي "ظهر خوفي"، مثلا."
أنا: "باختلف مع حضرتك لأن اللغة العربية كانت موجودة قبل المسيحية، والفعل نفسه نقدر نستخدمه
لغوياّ، لكن لو كلامنا لاهوتي بخصوص التجسد الإلهي فهو كان حصري من خلال يسوع المسيح."
كان هذا جزءا
من نقاش طويل دار بيني وبين ماما في مكالمة هاتفية، لم تكن أمي البيولوجية، وإنما
هي ماما لمئات، بل وأجرؤ على القول آلاف، الشابات والسيدات خلال سنوات خدمتها
الطوال كزوجة قسيس مباركة أكنّ لها فائق المحبة والاحترام، حتى وإن كنت أختلف معها
في وجهة النظر اللغوية-اللاهوتية فيما يخص استخدامي لكلمة "تجسّد"
وتوظيفي لها في إحدى مقالاتي منذ أعوام.
مع مطلع عام
2018 اخترتُ لنفسي شعاراً أتبناه خلال السنة الجديدة وهو مبنيّ على مقولة
استوقفَتني منذ مدة ورافقتني لأشهُر طِوال مع مقولات أخرى، إلا أن هذه الحكمة على
وجه التحديد أبَتْ إلا أن تعاوِدَني مِرارا وتكرارا في مواقف عدة كنت خلالها بأمس الحاجة إليها:
“Be who you needed when you were younger.”
"كُن الشخصَ الذي احتجتَ إليهِ وأنت
أصغرُ سِنّاً."
لازلتُ أذكر عندما قرأت هذه الجملة للمرة الأولى كم من الوقت استغرقتُ في محاولة استيعابها والغوص في معانيها. فقد كانت بالنسبة لي بمثابة السدّ الذي انفتح فأفرج عن مياهٍ متدفقة لم أكن أعي وجودها مُخزّنةً خلفَه. وبدأَتْ تتلاحق الصور في ذهني مع محاولاتي لِلّحاقِ بكثافتها وسرعة جريانها، فما كان بي إلا أن سارعتُ في تصنيفها وترتيبها وفقاً لجدولٍ يحفظ التسلسل الزمني لظهور تلك الأحداث والشخصيات والمواقف في حياتي في الماضي القريب والبعيد.
من ضمن تلك
الشخصيات التي استرجَعَها ذهني خانةٌ كاملةٌ مَعنيّةٌ بتسميةِ ودورِ وقالَبِ "زوجة
القسيس"، حيث عاد بي الزمن إلى سنوات مدارس الأحد وزوجة الراعي في كنيستي
بدمشق آنذاك وكيف كنت أراها وما الذي كنت أراقبُه فيها وأتوقعُه منها وأنا أرفع رأسي
لأنظر إليها بقامتي الصغيرة.
مرحلة المراهقة خرجَتْ من الحسبان لأنني كنت خلالها مشغولة بمراقبة إبنة القسيس أكثر
من زوجته، وكانت هي تكبرني بعام واحد فقط، لكن في المرحلة الجامعية تبلورَتْ أكثر صورة ُزوجة
القسيس في ذهني حيث كنا، ولا زلنا، في سينودس سوريا ولبنان نخاطب زوجة القسيس بلقب
"قسيسة" إدراكاً واعترافاً مِنّا بثِقَلِ المسؤولية المُلقاة على عاتِقِها داخل الخدمة وخارجها على حد سواء.
تزامن حصولي
على شهادة الدراسة الثانوية عام 1996 وبدء دراستي الجامعية مع عدة أسفار لبلاد ومدن
مختلفة تعرفتُ فيها على زوجات قسوسٍ من شتّى الطوائف والجنسيات ابتداء من بيروت،
وديترويت، وأتلانتا، وإدنبرة، وجلاسكو، وأوهايو، ولندن، ونيويورك، حيث وإن تنوّعَتْ أسباب السفر وظروفه إلا أن ما كان يوحّدُها كلّها في هذه المدن الثماني هو حضور الكنيسة
صباح أيام الآحاد. حيث كنت أختبر غِنى الاختلاف في أشكال العبادة والترنيم والصلاة في
كنائس عِدّة، وأتعرف إلى رعاتها وزوجاتهم لتقتصر المعرفة على سلام وكلام بُعَيدَ الاجتماع أو تمتدّ تلك المعرفة إلى وجبة غداءٍ أو قضاء يوم بصحبة أسرة الراعي المهتمة بالتعرف بفتاة
مسيحية إنجيلية سوريّة تُمثل بالنسبة إليهم نافذةً لحياة فتياتِ الشرق الأوسط في زمنِ ما
قبل الانترنت والعولمة.
Fast forward 10 years
وتمر سنواتٌ عشر لم أكن أعلم خلالها أني سأخضعُ أنا نفسي لذلك الميكروسكوب الإنترناشنال الذي صنعَتْهُ يداي
وكنتُ به أراقب كل أولئك "القسيسات" اللاتي خضعن لفحصٍ وتمحيصٍ وتدقيقٍ لا يخلو
من إجحافِ وقسوةِ عينِيَ الساعيةَ إلى الكمال. ومع انقضاء سنة تلو الأخرى باتَ لسانُ حالي أشبهَ بالترنيمةِ الميلادية
التي أعشقها:
“Mary Did You Know”
“Mary Did You Know”
حيث قمتُ بالتعديل
اللازم:
“Riham Did You Know?”
واستعنتُ بالترجمة العربية البديعة: "هل كُنتِ تعلمين؟"
هل كُنتِ
تعلمين أنكِ ستتزوجين من طالبٍ بكلية اللاهوت سيُرتَسَمُ قِسيساً قُبَيلَ عيدِ زواجكُما
الثاني بقليل؟
هل كُنتِ
تعلمين أنكِ ستختبرين أصنافاً وأشكالاً وأنواعاً من الغُربة لم تقرأي عنها في
رواياتك وكتبك المُحبّبة ولا شاهدْتِها في الأفلام الرومنسية أو أفلام الخيال العلمي؟
هل كُنتِ
تعلمين أنكِ ستقومين بتربية "ابن قسيس" و "ابنة قسيس" مع كل
التحديات التي يحملُها ذلك اللقب بين طيّاته؟
هل كُنتِ
تعلمين أن صديقاتِ ابنك وابنتك سيغمُرنَكِ بكل المحبة الطفولية الأنثوية التي يمكنُكِ أن تتخيّليها
أو تتمنّيها أو تصدّقيها أو حتى تحتمليها؟
هل كُنتِ
تعلمين أن شاباتٍ من كنيستك ومن كنائسَ أُخرى سيلجأنَ إليكِ طلباً للمشورة والحكمة
لأنهنّ يرَيْنَ فيكِ سيدةً وصديقةً وأختاً كبرى تتمتّعُ بالنّضوجِ والكِتمان الذي يحتَجْنَ إليهِ ليُفضيْنَ إليكِ بأسرارهِنّ فتصطَكّ عظامُكِ خوفاً ورهبةً من عَظَمة المسؤولية؟
هل كُنتِ
تعلمين أنه من أحشائكِ سيخرجُ مسيحٌ مُخلّصٌ مادّاً ذراعيهِ ليحتضِنَ صديقةً تئِنّ، ذارفاً
دموعَهُ هو من مآقيكِ أنتِ، فتراها هي وتتعزى؟
هل كُنتِ
تعلمين أن صديقة أخرى لن تجد أحداً يشاركُها فرحتَها دونَ غيرةٍ أو حسد أو ضغينة سواكِ، فتستبقُ مشاركة الخبر السار بأن تزفّهُ لكِ أنتِ أولاً فيتقافزَ قلبُكِ سعادةً في ضلوعِكِ بكُلّ عفوية وكأنّ الخبرَ يعنيكِ أنتِ؟
هل كُنتِ
تعلمين أنك ستُجسّدينَ كلّ هذه الأدوار وغيرها من المسؤوليات والشخصيات التي يحتاجُها
من حَولُكِ ليس كاحتياجهم للرفاهيات، وإنما لأنكِ أنتِ، بدرجة أو بأخرى،
"فارقة" كل الفرق في حياتهم؟
هل تعلمين؟
سؤالي الأخير
هذا موجّهٌ إليكِ عزيزتي القارئة، وإليك عزيزي القارئ. فأنت أدرى الناس بظروفك
ومحيطك وحياتك السرية والعلنية.
مع اقتراب
احتفالنا بمولد المخلص يوم 7 يناير/كانون الثاني بحسب التقويم القبطي، وخلال هذه
الأيام من فصل المجيء أو ما يسمى بالـ Advent أو The Advent Season تُلِحُّ عليّ هذه الأسئلة والتساؤلات، فأبحثُ لها عن
أجوبة في تأملاتي وقراءاتي وصلواتي. لن أدّعي أني توصّلتُ إلى إجاباتٍ شافية وافية، ففي
أغلبِ الأحيان قد لا تكونُ الإجاباتُ هي المهمة، بل الأهم منها هي الأسئلة. حتى وإن لم
نجد الجواب الصحيح، علينا أن نبحث عن السؤال الصحيح.
ما هو فعل
"التجسّد"؟ وما الذي يعنيه لي أنا شخصياً أن يتغيرَ معنى هذا الفِعلُ من جذورِهِ لمُجرّد أن يرتضِيَهُ الله على نفسه، لأجلي أنا. وكيف يُمكنُني أنا أيضاً أن أكونَ مريم
العذراء؟ ليس من باب التضامن والتفهّم "كُلُّنا مريمُ العذراء"، الأمرُ الذي
عَهِدناهُ مؤخراً على شبكات التواصل الاجتماعي. بل أن نكون "كلُّنا مريمَ العذراء" بشكلٍ فردي. أن تكون أحشاؤنا من العُذريّة بمكان لأن يتجسّد منها الله
ويولدَ في حياة مَن حولنا ليخلصهم من وحدتِهم وحيرَتِهم وتخبُّطهم. أن نعود إلى مقاعد مدارس الأحد الخشبيّة ونصلّي
صلاة الأطفال في كل ميلاد: "تعال يا يسوع لتولَدَ في قلبي." ومن ثمّ نقفَ وقفة الكبار
ونَعِي أعماق هذه الحقيقة وعَظَمة المسؤولية ورهبة التكليف والتشريف، كيما بعدها نركعَ على إثر
ذلك ركوعَ العذراء مريم ونَخضعَ قائلين: "ليَكُن لي كَقولِكَ." فنعيش عامنا
الجديد بفعل متجدد للتجسُّد، نُجسِّدُ ذلك الشخص الذي احتجنا إليه عنما كُنا أصغرَ سناً، ويكون عام 2018
عام التجسُّد المتجدِّدِ فينا وبنا ومن خلالنا.
No comments:
Post a Comment