Tuesday, September 1, 2015

مذكرات زوجة قسيس شابة: الكوكتيل

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القراء أشارككم بها، قصاصات من دفتر مذكراتي فيها قصص من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطور إلى جسور طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الكوكتيل/

إن المعضلة التي حيرت عقول الفلاسفة وعلماء الأحياء والباحثين في التاريخ والدين وتكوين الحياة على الأرض هي في صلبها ليست معضلة توقيت زمني، حتى وإن استطعنا أن نجيب على صيغتها التساؤلية: "مين اللي إجا بالأول البيضة ولا الجاجة" فإننا سندخل في دوامة أخرى تذهب أعمق من الزمان والمكان. لنتخيل معا دجاجة تتلقف الحبوب عند قدمي آدم وحواء ثم تنتقل لمكان آخر في جنة عدن وإذا بها قد وضعت بيضة. أو أن نقلب المشهد فنرى أدم جالسا على صخرة في الجنة واضعا خده على كف يده منتظرا آلاف البيض الذي خلقه الله كي يفقس وبعد أن يفقس البيض كله وتكتمل "النيو كولكشون" من الحيوانات غير الثديية يخلق الله لآدم معينا نظيره وتأتي حواء كي تسأله: "هل خلق الله البيضة أولا أم الدجاجة؟"

عندما أفكر بموضوع الانتماء لا يمكنني أن أعزله تماما عن فكرة الهوية، أيهما يأتي أولا؟ هل تبدأ هويتنا بالتشكل في نعومة أظفارنا ومن ثم ينشأ عنها شعورنا بالانتماء؟ أم أن انتماءنا هو الذي يسبق هويتنا؟ مما لا شك فيه أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه يحتاج إلى الآخر كي يبقى على قيد الحياة وهذا يعني أن الهوية والانتماء هما من الاحتياجات الأساسية للإنسان ولا يندرجان تحت قائمة الرفاهيات التي يمكن الاستغناء عنها لأن نقصهما ببساطة سيعيق الحياة الطبيعية لأي كائن بشري على وجه البسيطة.

بالنسبة لزوجة القسيس فإن موضوع الانتماء  أمر شائك لا يعي له بالقدر الكافي شعب الكنيسة التي تخدم فيها، أو التي تنتمي لها الآن، ولكن إلى حين. فهم ينتمون إلى نفس الكنيسة ويفترضون أن عائلة القسيس تشاركهم نفس الانتماء اللحظي والقديم في نفس الوقت. لكن الأمر ليس بعذه البساطة.
تولد زوجة القسيس كباقي الإناث المسيحيات، في كنف أسرة تنتمي إلى كنيسة معينة بغض النظر عن عمق انتمائهم لهذه الكنيسة أو التزامهم بواجبات العضوية أو الخدمة فيها، لكنها كنيسة مولدها وفي أغلب الأحيان كنيسة معموديتها أيضا. قد تنتقل أسرتها للعيش في مكان آخرأيام طفولتها فتتغير كنيستهم، وقد تغترب هي في سنوات شبابها فتنتمي إلى كنيسة الغربة لتكون الأخيرة بيتها الثاني دون أن تشعر بأي ذنب تجاه كنيستها الأم، ودون أي حرج في زيادة "كمية" الانتماء لكنيسة الغربة فهي غير مجبرة على الانخراط في صفوف الخدمة أو الاتزام بحضور اجتماعات أيام الآحاد أو أيام الأسبوع. كنيسة الغربة كنيسة اختيارية قد تتغير في اي لحظة حسب "المزاج" لينتهي المطاف بـ"زوجة القسيس العازبة" وقد أنهت سنوات غربتها بعد أن قامت بزيارة كنائس عدة. تعود بعدها إلى كنيستها الأم لتتزوج فيها في الغالبية العظمى من الحالات التي أعرفها والتي أنا من ضمنها.

لا أريد أن يسيء القارئ فهمي فيعتقد أنني أقدس الحجر على البشر، فأنا أعي تماما أن الكنيسة ليست هي الجدران بأساستها المزروعة جغرافياً في المكان الفلاني وإنما هي جماعة المؤمنين المؤسسة على صخر المسيح. لكنني أستخدم كلمة "الكنيسة" بمعناها المزدوج لأنني أؤمن أن التكوين النفسي لشعور الانتماء لدى الإنسان لا يقتصر فقط على الأشخاص وإنما يتجاوزهم ليشمل شعور الانتماء لأماكن بعينها ورائحة بعينها و أزيز باب بعينه ومنظر بلاطة مفقودة بعينها ورائحة قهوة صباحية بعينها، وطعم جبنة متعفنة بعينها، ولحن أغنية أو مقطوعة موسيقية بعينها والكثير الكثير من أمثلة المستقبلات الحسية والوجدانية التي تتكون معها هويتنا.

"مبروك... جالِك قسيس". تتزوج بطلة قصتنا لتنتقل إلى العيش مع زوجها في كنف كنيسة جديدة تماماً، وهنا تبدأ رحلة تكوين لبذرة انتماء جديد في مكان جديد ستجد زوجة القسيس لنفسها فيه أصدقاء في مثل سنها، أو أمهاتٍ أبناؤهم في نفس سن أبنائها، وستجد آباء وأمهات يحتضنونها ويحبونها ويرون فيها ابنتهم المغتربة وهي ترى فيهم أهلها الذين تركتهم، ستجد إخوة واخوات صغار في شتى الاجتماعات النوعية في الكنيسة كما ستجد لنفسها زوجا جديدا هناك، هو يحمل نفس جسد وهوية زوجها الأصلي لكنه سيتغير وينضج ويفرح ويُجرح ويختبر الكثير من صواعد ونوازل الخدمة الرعوية في الكنيسة التي قاده روح الله لها واختار هو أن ينتمي إليها لسنين طالت أم قصرت.

أين المشكلة إذا؟ المشكلة هي أن هذا الانتماء لا ولن يرقى إلى درجة "الحب الأول" فحتى وإن تغيرت انتماءاتنا بسرعة إلا أن هوياتنا لا تتغير من تلقاء نفسها بذات السرعة لتواكب "الشقلبة" بشفافية، وهذا أمر جيد وصحي إلا أنه متعب جدا للفرد أن يشعر بالغربة ضمن جماعة ينتمي لها لكنه لا يجد هويته فيها. إنه أمر متعب أن يعيش المرء مع ذلك الشعور الدائم بأنه an outsider  أو أنه ضيف يجهل مستضيفوه معلومات أساسية عن هويته، ومهما امتدحنا التميز والفرادة وعلّمنا أولادنا دروساً مثل you are special, you are unique  إلا أن شعور الاختلاف المزمن يؤدي إلى حالة انسلاخ عن جماعة يبدو أنك تنتمي لها ولكنك لا ترى نفسك تشبه أيا منهم. تفرح لأفراحهم وتحزن لأحزانهم لكنك عندما تتألم يتوجب عليك تقديم الشروحات والتفسيرات كي تساعدهم على فهم ما تمر به أنت لأن هويتك مختلفة وهي "تؤلمك".

عندما فتكت الحرب بسورية كان أكثر أمر يؤلمني يقوله المعزون المتعبون هو: "مبارك شعبي مصر" بدل أن يتواضعوا ليعترفوا أن مصر كان من الممكن أن تنجر إلى حرب دموية بشعة، يربتون على الريشة المتربعة على رؤوسهم لأنهم مصريون بالميلاد (وكأنهم اختاروا مسقط رأسهم) ويعظونني عن استحالة حصول أي مكروه لبلدهم الذي وإن كان هو بلدي الثاني إلا أنه من المفترض (في رأيهم) الآن أن يكون قد طرد سورية من عرش قلبي ليحتل هو مكانه فتنقلب هويتي التي عشت داخلها عشرين عاما وعاشت داخلي ستة وثلاثون سنة، ولا زالت.

"اللي مالوش خير في حاتم ملوش خير في مصر" جملة شهيرة رددها الراحل خالد صالح في فيلم "هي فوضى"، لم أشاهد الفيلم لكنني أعيش في مصر حيث تنصهر "إفيهات" الأفلام في الحياة اليومية شئنا أم أبينا. وأنا أقول لنفسي "اللي مالوش خير في سورية ملوش خير في أي بلد تانية هايعيش فيها وياخد جنسيتها".

فما هو الانتماء بالنسبة لي إذا؟ هل كوني إنسانة أولا وأنثى ثانيا وشرقية ثالثا ومسيحية رابعا وعربية خامسا وسورية سادسا ومصرية سابعا وإلى ما هنالك من انتماءات لجماعات صغيرة وكبيرة تشمل بعيدا عن تسلسل أهميتها: كوني جرجورية (من أسرة ضخمة هي "عيلة جرجور")  كوني إنجيلية مشيخية، كوني شامية (نسبة إلى الشام أي مدينة دمشق)، كوني ابنة وأختا وزوجة وأما، هل أنا مازلت حفيدة حتى وإن انتقل أجدادي الأربعة إلى الأمجاد؟ هل ما زالت هوية مدرّسة اللغلة الانجليزية على قائمتي حتى بعد تقديم استقالتي؟ هل توقفت هويتي كمترجمة بعد مضي ثماني سنوات على صلاحيتها؟

من أنا؟ ما هي انتماءاتي؟ ما هي هويتي؟

تستخدم اللغة الانجليزية ظرف المكان في الحديث عن الانتماء في معظم الأحيان where do I belong?  إلى أين أنتمي؟ وقد نقضي عمرنا في حسابات وتحليلات فلسفية واجتماعية ونفسية ودينية كي نجيب عن هذا السؤال لكن الطريقة الأسهل للإجابة عنه هي في قابس المشاعر والوعي. هذا القابس يشبه "الزر" لو تم الضغط عليه سنسمع صوتا يقول بسرعة "انتماء" تماماً كزمارة بطة الاستحمام الصفراء المصنوعة من البلاستيك المرن. فننتقل من حالة شعورية إلى حالة وعي وإدراك لانتماءاتنا حتى وإن اختلفت بعض المعطيات والتفاصيل في القصة لكن صافرة الانتماء انطلقت جلية ولمست وهزت وجداننا.

عندما أسمع عن قصة رهيبة لمهاجر سوري وما عاناه من أهوال ورعب وخسائر في  البحر والبر عبر القارات وصولا إلى ملجأه في أوروبا،(مسلم أو مسيحي لا أعلم كما لا أعلم من أي مدينة هو)، "انتماء"، شخص سوري

عندما أتذكر الحادثة المفجعة لباص كنيسة المنيا التانية وحالي يوم سماع الخبر، "انتماء"، مصريون مسيحيون انجيليون

عندما أقرأ كتابا بقلم أم فقدت ابنها ووجدت نفسها في خضم رحلة ألم وأمل، حب وفقدان، "انتماء"، أميركية لديها صبي وبنت

عندما يخبرني زوجي أن ريجيانا تعاني من سرطان الدم، "انتماء"، طفلة من كنيستنا الحالية

عندما أرى صور الدمار الذي أحدثته قذيفة هاون كانت من نصيب الكنيسة الإنجيلية المشيخية بدمشق، "انتماء"، كنيستي الأم، كنيسة معموديتي، كنيسة زفافي

عندما تكلمني أمي لأهنئها وتهنئني بوصول إيمانويل، ابن أخي الثاني (الابن الثاني والأخ الثاني) بالسلامة، "انتماء"، عائلة المهندس عوض جرجور ومدام ليديا، عائلتي

أمثلة لا تنتهي عن أخبار وقصص سعيدة، أخبار وقصص تدمي الحجر، أسمعها وأعيشها فأرى ذلك القابس ينطلق من تلقاء نفسه "انتماء" فأبتهج أو أبكي كرد فعل لا إرادي، عندها فقط أدرك مدى انتمائي لأسرتي ولكنيستي ولبلدي ولديني ووللغتي ولكل الدوائر من حولي. تلك الانتماءات الصغيرة والكبيرة، العفوي منها والطوعي، التي ولدت فيها والتي اخترتها بمحض إرادتي، هاأنذا مع مرور السنين أضع جرعات مختلفة من كل منها في خلاط حياتي فأجدني أستخلص في كل مرحلة كوباً جديداً من كوكتيل هويتي.


بدون تعليق: مهما تذوقت من كوكتيلات سيظل الكوكتيل الأحَب والأقرب إلى قلبي هو هويتي التي أستقيها من تلك الخلية الصغيرة وانتمائي لها بأفرادها الأربعة