Saturday, February 20, 2016

الخبطة الخمسية

لست أذكر ان كانت في أواخر المرحلة الابتدائية أم في المرحلة الاعدادية، لكنها كانت موجودة. "الخطة الخمسية" مفهوم جديد بالنسبة لنا عندما كنا صغاراً يتم تدريسه في مدارسنا في سوريا لتعريفنا بما تقوم به الدولة. كل ما فهمته من هذا العنوان في ذلك الوقت هو أن مدة خمس سنوات ليست طويلة كما يظن البعض فهي بالكاد تكفي لتحقيق خطة ما في مجال ما والسير وفقا لهذه الخطة طيلة السنوات الخمس. لكنني كبرت واكتشفت أن نفس السنوات الخمس إن اقتصرت على المصائب والكوارث الكبيرة منها ذات الأمد الطويل والصغيرة التراكمية اليومية فلن تكون بالمدة القصيرة وستمر السنوات الخمس "بالعافية" أو "بالزور" مخلفة وراءها جروحاً وقروحاً يتوجب مداواتها سنوات خمس أُخَر أو أكثر.

فكرة تقسيم السنوات الطوال إلى قطع يقتصر كل منها على سنوات خمس تخلق في ذهني صورة لوح من الشوكولاته، كل مربع فيه هو خمس سنوات يلتصق به مربع ثان بطريقة أنيقة تحدد إطاراً لكل مربع لكنها تحفظ اتصال واتحاد المربعات كلها معاً. ولو أردتَ فصل الواحد عن نظائره كل ما عليك هو قلب اللوح على ظهره و توجيه بعض الضغط على أحد الخطوط الانتصافية لتقتطع منه صفاً من المربعات فيتعين عليك تكرار نفس الحركة لفصل المربع المنشود.

لوح شوكولاتة وسنوات تعدادها بالخمسات، تلك كانت حياتي ولا تزال. لكنني أعجز عن التحديد المسبق لمعالم كل مربع فأنا لا أضع خططا خمسية ولكنني بعد مضي حقبة من الزمن أنظر إليها وقد ترسبت على هيئة خمس سنوات في تاريخ لوح الشوكولاته. لقد كان مستقبلي يفتقر دائما إلى أي خطة خمسية لكنه كان دائما يتحول إلى تاريخ يتردد في أرجائه بين الحين والآخر صدى خبطة خمسية.

خمس سنوات هي المدة الزمنية التي قضيتها في بيروت. انتقلت إلى العيش في العاصمة اللبنانية بهدف الدراسة الجامعية بعد أن باءت محاولاتي في دمشق بالفشل الذريع على مدى أربع سنوات لجأتُ بعدها إلى تغيير مجال اختصاصي وبلد سكناي. خمس سنوات كانت من أصعب سني عمري لكن من أروعها في نفس الوقت قضيتها في الغربة والدراسة والعمل والعيش المستقل فنلت في نهايتها ليس شهادتين جامعيتين فحسب ولكن شهادات عدة في مجالات لا تحصى في الحياة مع تراكم خبرات منها الجميل ومنها المؤلم شكلَت في شخصيتي وكان لها البصمة الأكبر في تكوين الإنسانة التي أنا هي الآن.

خمس سنوات هي مدة زمنية في تاريخ الأشخاص كما الأشياء فقد اقتصرَت ميزانية بيت الزوجية السعيد لي ولزوجي على شراء أريكة يتيمة تتسع لشخصين فقط لا غير كان عليها أن تنتظر ذكرى زواجنا الخامس كي نستبدلها بأريكة ركنية من الجلد استحالت معها غرفة الضيوف في شقتنا إلى غرفة مضيافة ستختصر في السنوات التي تلت عدد ضيوفنا الجاليسين على السجادة وكراسي مائدة الطعام فهناك متسع من المساحة على أريكتنا ومتسع من الحب في قلوبنا أيضا لأننا في عيد زواجنا الخامس كنا قد أصبحنا أسرة من أربعة أشخاص مع استمرارنا في الترحيب بضيوفنا والتقاط صورة كوميدية على "أريكة المشاهير" كما لقبناها. لم نكن عروسين بالمعنى التقليدي للكلمة، يتقدم الشاب لخطبة الفتاة وفي جيبه مفتاح شقة اشتراها بماله أو بمساعدة والديه فنحن لا زلنا لانمتلك سقفاً فوق رؤوسنا سوى سيارة مستعملة، كما لم أكن أنا عروساً يخفي خجلُها مخزون سنين حرصت أمها خلاله على تحويش أصناف وضروب  مستلزمات المنزل والمستلزمات الشخصية، فقد استبدلتُ ذلك النوع من الاستثمار في انتظار عريس السعد بنوع آخر من الاستثمار أبعد ما يكون عن الممتلكات والنواحي المادية لذا خرجت ُمن بيت أبي متأبطة ذراع صديقي ألمح في عينيه بريق الافتخار ليس فيما تملك شريكة حياته من أشياء لكن فيمن هي تلك المعينة نظيره كشخص تركز غناها في شخصيتها وتوزع في نواح عدة ليملأ سراديبها.

خمس سنوات هي المدة الزمنية التي قضيناها أنا وزوجي في الاسكندرية، مدينة ساحلية لا تشبه بيروت إطلاقاً. حتى شمس الغروب وهي تغطس لتختبئ في الجيب الأزرق للبحر المتوسط تتوسطه في بيروت بينما تميل ميلاناً حاداً ناحية اليسار في الاسكندرية. خمس سنوات لم نلمس خلالها ماء البحر على عكس توقع الناس وخاصة أصدقاؤنا وأقاربنا القاطنين في قيظ وتلوث القاهرة أننا نذهب للبحر بانتظام في صورة زوجين سعيدين يحملان بيد شمسية كبيرة ملونة وباليد الأخرى قفة قش بها ما لذ وطاب، تشتبك يديهما الحرتان ببعضهما البعض قاصدَين الشاطئ. خمس سنوات كنت أرى فيها البحر من بعيد تطبيقاً لمبدأ "شم ولا تدوق" ألمحه بطرف عيني وأنا أقود السيارة على طول طريق الكورنيش وأنا حامل، ثم أقطع نفس المسافة برفقة ابني الرضيع، وبعدها يتكرر المشهد مع طفل يمشي وجنين يسبح في بحره الخاص داخل جسمي وآخرها برفقة صغيرين كل منهما يحتل كرسيه الصغير في السيارة ويملأ حيز الهواء بضجيجه الكبير وطلباته التي تُحوّل عملية القيادة البسيطة إلى تحدّ أشك أن كثيرين من الرجال (وخاصة الذين يفتخرون بمهاراتهم في قيادة السيارات) يقدرون على احتماله، لكنه كان من نصيبي لسنوات طوال إلى أن كبر الأبناء نسبياً وتحول العويل والصراخ والبكاء إلى مشادات كلامية كلما اختلفا في الرأي. لكنني خلال تلك السنوات الخمس الأولى كانت سيارتنا تحتوي حفاظات هذا وببرونة حليب تلك يتناغم فيها توقيت الوقفات والاستراحات والبحث عن أماكن للتوقف الطارئ أو التوقف الطويل ومن ثم مشقة النزول من السيارة مع شنطة على ظهري ورضيع على يدي ممسكة بطفل في اليد الأخرى، أستخدم يدا ثالثة لأقفل الباب ورابعة لوضع نظارة الشمس وخامسة لدفع مبلغ نقدي وسادسة وعاشرة لأن الله ينبت للأمهات أياد تفوق عدد أرجل الأخطبوط.
بعد انقضاء خمس سنوات ذهبنا أخيرا إلى مصيف للمرة الأولى وقضينا ليلتين مرضَت فيهما ابنتنا التي كانت قد شارفت على إتمام عامها الأول لكننا حاولنا استثمار الليلتين بأقصى طاقتنا وتم الإنجاز ولمسنا ماء البحر للمرة الأولى وقررنا أن نحاول تكرار تلك الخبرة سنويا.

خمس سنوات هي المدة الزمنية التي قضيناها في مسكن ضيق وظروف إقامة كانت تزداد صعوبتها كل شهر مع ازدياد عددنا وانتظارنا فرصة الانتقال إلى مكان أوسع. عندما غادرنا القاهرة وسكنا تلك الشقة الاسكندرانية كانت السكنى مؤقتة محدودة ببضعة أشهر قد تصل إلى سنة ولكنها امتدت رويداً رويداً حتى تجاوزت سنوات خمس كان أصعب تحدٍ فيها هو مطبخ خالٍ من الرخامة المعتادة كمساحة لإعداد الطعام كما خلى من أي خزائن أو "دواليب" لتخزين الأدوات أو الطعام على حد سواء. كان المطبخ يقتصر على حوض (أو مجلى) وبوتاجاز أضفنا بجواره رفين معدنيين كنت أضع عليهما ستة أطباق وبضعة أكواب مرصوصة في الهواء الطلق بلا باب يقيها من الغبار والأتربة ومن أيادي العابثين الصغار. 
كنت أعرف منذ طفولتي أنني "خلاقة" فقد كنت أقضي ساعات طوال في الرسم والكتابة والعزف والخياطة والأشغال اليدوية. وبعد زواجي اكتشفت أنني أحتاج هذه الخصلة كي تمر الشهور التسعة في حملي الأول بسلام وأنا أطبخ في هذا المطبخ بطريقة "خلاقة" ومن ثم أعقم ببرونات الرضاعة لطفلي وأعد طعامه تحت نفس الشروط والظروف لأدخل مرحلة شهور تسعة أخرى في الحمل الثاني وأطبخ لثلاثة أشخاص رابعهم غير مرئي: زوجي وزوجته الحامل وابنهما. ولدت ابنتنا في نفس المكان وشاركتنا السرير وغرفة النوم التي لم يكن هواؤها يكفي لأربعة أشخاص بينهم مخلوقان صغيران يوقظانني كل ساعة ليشتد التحدي الثاني وهو حرماني من النوم فيزيد بدوره صعوبة أكبر من صعوبة الطبخ في مطبخ "خلاق". فكان الصداع المزمن وتوتر الأعصاب المستمر وانعدام التركيز أصدقائي الجدد على مدى سنوات خمس طوال لم أذق فيها طعم النوم ليلة واحدة فكنت أحلم (أحلام يقظة!) بفرصة نادرة لنوم متواصل لثلاث ساعات لكن حتى تلك كانت ضرباً من ضروب الرفاهيات في ظروف سكنية وحمل وولادة ورعاية أطفال بمفردي مع انشغل زوجي وسفره المتكرر. أنا التي اختصت أيام الجامعة بعلم نفس الطفل وبمبادئ تربوية تفتقت عنها عبقرية أشهر اختصاصيي علم النفس والتربية وعلم الاجتماع في العالم كنت عاجزة عن تحقيق حلمي المثالي في أمومة مثالية أمنح بها أبنائي طفولة مثالية . "بس ربنا ستر" وانقضت السنوات الخمس بأقل نسبة من الخسائر على صعيد تربيتي لأطفالي حتى وإن تركَت نُدباً عصية على الشفاء لدى أمّهما.

خمس سنوات هي المدة الزمنية التي مرت (ولايزال العداد يركض) لم أر فيها بيتي، بيت أهلي، بيت الجد والجدة لأطفالي... هو بيت واحد لكنه بيوت كثيرة داخل بعضها البعض كالدمية الروسية. خمس سنوات لم أذق فيها طعم أن أمسك بابني في يد وابنتي في اليد الأخرى وأصطحبهما لزيارة "تيتا وجدو". اشتقت لرائحة ذلك البيت، اشتقت لصوت المفتاح وهو يقرقع في قفل الباب مرتين ثم ينفتح الباب ورقبتي مائلة باتجاه اليمين أتجنب الجدار الذي يقابلني وأدير بوجهي ناحية الصالة. اشتقت إلى المطبخ الواسع المنير والمجهز بكل ما كانت تحتاجه أمي لطهي أشهى المأكولات والحلويات لأسرة من ستة أشخاص بعد يومها الشاق في العمل كمدرسة لمادة الرياضيات. اشتقت لشرفة المطبخ كما اشتقت لطاولة صغيرة في مطبخنا هناك كنا نتناول عليها طعام الإفطار ونلتف حولها مساء لعشاء سريع نتبادل أثناءه الحديث بينما يجلس أحدنا ويفتح الآخر الثلاجة ويقف ثالث عند حوض الجلي. اشتقت إلى كل غرفة في منزل يتسرب الدفء من جدرانه يلف عظام جسمك بطبقة حماية تقيك من كسور الحياة. أتراني الآن مهشمة لطول بعدي عن تلك الشرنقة؟ هو البيت والملاذ والشاهد لمراحل طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا نحن الأربعة حيث كبرنا أنا وإخوتي ورضعنا مفاهيم ومبادئ خلا منها المجتمع والشارع آنذاك لكنها كانت الغذاء الأمثل لأرواحنا وشخصياتنا. اشتقت إلى علبة مراسلاتي التي كنت أحتفظ بها تحت سريري في الغرفة التي تشاركناها أنا وأختي، فيها رسائل كتبتها لأشخاص مختلفين على اختلاف أهميتهم ودورهم في حياتي مع اختلاف المراحل العمرية ومحطات الحياة. اشتقت إلى ألعابي التي احتفظت بها كي أورثها إلى أولادي إذا تزوجت يوما ما أو رزقت بأطفال. اشتقت إلى صوت حسيس النار في المدفأة أيام الشتاء وإلى الشرفة الواسة التي تطل عليها غرفة الجلوس، شرفة بها ممر خارجي خاص يصلها بغرفة نوم أهلي وبابها السري الذي لا يعلم به إلا أصدقاؤنا المقربون.

أحكي لإبني عن المرة التي اصطحبته فيها لقضاء أسبوعي العيد هناك مع ختام عام 2010. كان قد أكمل ستة أشهر بعد عامه الأول وكنت أنا حاملأ في شهري الأول فينقطع سيل الذاكرة وسلاسة الحديث بسبب مشاجرة مع أخته التي تبلغ من العمر أربع سنوات ونصف وتبدأ هي المشاجرة قائلة: "اشمعنى؟" فهي لم يتزين جواز سفرها بختم مطار دمشق، بعد. خمس سنوات تحولت خلالها معرفتي العقلية والتفاعل النظري مع أصدقائي الفلسطينيين والعراقيين إلى "خبز وملح" تذوقتهما بنفسي وعرفت مرارة الحرمان من الوطن ... ولوعة الغربة القسرية... وجمر الشوق الذي يستحيل جمرأ أبديا، لا هو نار يدفعك لهيبها إلى إخمادها ولا هو رماد يمكنك كنسه أو حتى تجميله بالرسم عليه بإصبعك. يبقى جمراً يكويك بصمت، يحرق لسانك كيلا تجيب بإجابة خارجة عن إطار الكياسة عندما تسمع أحدهم يقول لك: "يا بختِك أهلك معاكي هنا". أأحكي لهم عن شهور الذل والعذاب أم عن طعم الفقدان؟ لكنك لا تملك سوى أن تومئ بتهذيب وتتمتم في نفسك: "لقد كنتُ أنا نفسي يوماً ساذجة مثلهم تماماً... ومن يدري، فقد أكون تفهوهت بمثل تلك العبارات البلهاء لصديقة فلسطينية أو أخرى عراقية!". وألتزم الصمت، فهو أبلغ تعبير وأوقع تعليق يمكن أن يرافق صوراً وأخباراً تصلنا من سوريا لترتفع معها الصلوات والتضرعات الخرساء طلباً لسلامة خالتي وولديها، خالي وأسرته، عمي وأسرته، عمتي وعمتي وأبناء أعمامي و و و ... وتسرح الذاكرة في بحر من الوجوه والأسماء لأصدقاء وأفرادٍ من أسرتي لا زالوا يعيشون جهنم الحرب بتذاكر من الدرجة الأولى، لا تقتصر حياتهم على مقاعد المشاهدة ولكنهم في قلب مسرح الأحداث في مدن كدمشق وحمص وحلب... في قرى كقرية أجدادي... في شوارع وأزقة عاشرتُها كما يترافق صديقان... ولا زال العداد يركض...

خمس سنوات مضاعفة، أي سنوات عشر انقضت منذ زواجنا حين قررنا في صيف عام 2006 أن نؤجل شهر العسل فلا نسافر إلى تركيا أو قبرص أو شرم الشيخ أو تايلاند، فتلك كانت بلدان "آخر موضة" في شهر العسل. قمنا بتأجيل شهر العسل ليس فقط لأننا لانملك النقود الكافية لمشروع كهذا أياً كانت وجهتنا ولكن لأننا قررنا أن نسافر بعد انقضاء سنة على زواجنا نكون خلالها قد تعارفنا وتآلفنا وتصادقنا فنستمتع بهذه الرحلة أكثر من عريسين مرهقين منهكين مادياً ونفسياً ومعنوياً وعلى كل الأصعدة. لم نحظ حتى بحفلة ما بعد العرس فقد اقتصر فرحنا على الخدمة الكنيسة وتلقي التهاني في حديقة الكنيسة الإنجيلية بدمشق غادر بعدها الحضور كل إلى منزله. لقد كانت خطة تأجيل شهر العسل مقصودة لسنة واحدة قفط أو اثنتين على الأكثر سنستقر بعدها في مشروع الإنجاب لكن الإنجاب تأجل سنوات ثلاث وشهر العسل تأجل سبع سنوات بعدها وانتهى بنا المطاف أننا أكملنا خمستين فأبدأ أنا جدياً في التخطيط لإحياء ذكرى زواجنا العاشر في رحلة ما إلى بلد ما. أخطط لسفر أشبه بالسراب قد لا يتحقق لكنه على الأقل سيشغل ذلك الحيز الصغير في رف أحلامي كنت قد خصصته لحلم بعنوان: "سفرية شهر العسل" لكنه ملف كتب عليه الآن بخطٍ مختلف عبارة إضافية "بعد التعديل" لأننا لن نكون عريسين ولا زوجين تقطر الرومانيسية من جوازات سفرهما وتذاكر الطائرة متعددة الوقفات وحساباتهما البنكية الدسمة، فسنكون برفقة صبي في السابعة وأخته التي ستكمل الخامسة وأستبدل صورة شهر العسل بصورة عائلة سعيدة معها الخبز الكفاف، صورة تضيؤها إشراقة ابتسامة طفلين يتطاير الحماس من عيونهما. وسأستبدل اللون الأبيض لفستان العروس بخطوط بيضاء علت شعرها وتعذر إخفاؤها كالسابق. كل خصلة بيضاء منها، سواء اقتصرت على بضعة شعرات أو جمعت فريقا كاملا منها، هي ضربة ريشة لفنان. تشهد كل ضربة منها عن ألم صغير وآخر كبير، بعضها تمكنت من تجاوزه وبعضها الآخر ترك آثارا لم تقتصر على الشيب، لكن في كلتا الحالتين لا متسع هنا لفرد قوائم تؤرخ وتفصّل وتشرح باقتضاب أو باستفاضة عن تلك التجارب المؤلمة فالمؤامرة الآن ليست لفضح المستور وتعداد الدموع المختبئة وراء الابتسامات وليست للعق الجراح واجترار آلام الماضي ولكنها مؤامرة للتحايل على الزمن وخداع الواقع وللمناورة يميناً وشمالا لإيصال الكرة إلى الهدف، عائلتي إلى السفر. العروس التي كنتُها قبل عشر سنوات مضت، إيصالها إلى شهر العسل. أطفالي الذين لا يكفون عن السؤال عن هذا وذاك إلى مكان لن يسألونني فيه ولو لبضعة أيام عن بقعة الصرف الصحي التي يفيض بها شارع منزلنا وعن معنى السباب القذر الذي خصني به سائق التكسي وأنا أوصلهما بسيارتنا إلى مدرستيهما وعن سبب إصراري على ارتدائهما ثيابا صيفية خفيفة وسراويل قصيرة لأن حرارة الجو قاتلة بينما أختنق أنا متخفية داخل ملابس طويلة الأكمام والذيول. ربما، وأقول ربما لو سافرنا فسأسمع أسئلة من نوع مختلف عن رائدة فضاء أو عالم ذرّة فأغذي نهمَهُما للمعرفة بأن أشير بإصبعي إلى تماثيل لأناس عظماء غيروا وجه التاريخ ولازالت صورهم وإنجازاتهم تزين شوارع مدينة أجنبية نظيفة، فأولادي في النهاية قد ختموا ما يمكن تعلمه في شوارعنا وقد حفظوا كل أنواع السيارات المتاحة في الاسكندرية عن ظهر قلب ومراحل نمو القمر في سمائها واختلاف درجات الأزرق في بحرها.

ماذا عن Plan B؟ تحسبا لأية إحباطات متوقعة، أو عواقب حتمية فسأضع خطة بديلة، ستكون تماماً كجوائز الترضية في المسابقات الكبرى، لأنني وإن كنت أميل بطبيعتي إلى تبني عناد الأطفال وضرب الأرض بالأقدام "بدي سافر بدي سافر" فإنني سأحَكِم عقلي البالغ من العمر أكثر من ستة وثلاثين عاماً وسأسترجع أحلاماً صغيرة وكبيرة رأيتها تقتل أمام عيني وأتحلى بنظرة واقعية أو حتى ساخرة: "لأنو مين يعني محتاج شي إسمو بريك؟ وشو يعني لو كنت مرهقة فوق العقل والتصور؟ سنة اتنين عشرة ولا مليون ... شو يعني إزا قعدت 6 سنين ونص مو نايمة ليلة لحالي بعيد عن الأولاد؟ وشو يعني إزا عندي تعب نفسي وجسدي مزمن وشوية عقد وتعقيدات عم تتراكم سنة ورا سنة؟ هو ضروري الواحد يعني يبعد شوي مشان يرجع فريش؟ ما هي أساساً الأجازة رفاهية سواء أسبوعية أو شهرية أو سنوية وأنا مو طايلة ولا واحدة منها ويمكن حتى ما كون أساساً باستاهلها بعد كل هالشقى والتعب اللي ما يعلم بيه إلا ربنا؟ وعيب عليكي أساساً يا بنت في ناس مو ملاقية أكل وانت قاعدة عم تتوحمي صارلك مليون سنة على أجازة شخصية لحالك حتى لو ليلة يتيمة أومشتهية عطلة عائلية طويلة بمكان بعيد أو سفر وهروب وراحة وحكي فاضي... يعني بكلمة واحدة "اخرسي" بس بطريقة مهذبة طبعا أنا ما كتبت هالكلمة، هو اللي عم يقرأ تخيلها مكتوبة، لأنو الناس المتحضرين ما بيصير يحكوا هيك... ولما كنت أسمع واحدة عم تشكيلي وأنا باعرف ان حياتها مافيها ولا 5% من المرار اليومي تبعي كنت أخرس قبل ما قولها: لك تعي جربي 24 ساعة بدالي كنتي انتحرتي... فكيف لو جربتي أسبوع ولا شهر ولا سنة؟ هي بالنهاية كلها رص حروف وكلمات عادية ما حدا رح يفهم منها شي ولا رح يحس معي شعراية واحدة لأن شكل حياتي من برا قمة في الروعة بينما الدقائق والثواني في خبرة الأمومة كانت عم تخبي آلف آه و آه... طالعة من قلب نهشته الوحدة ... وبطل يشتهي مساعدة... ولا يشتهي كتف رفيقة أشكيلها وتفهمني... لك بطل حتى بدو يشتكي... قاعد يلف ويدور حوالين الموضوع لأنه عيب نحكي وعيب نشرح وعيب نقول لازم دايما نحافظ على الصورة المثالية من برا... صرت بس مشتهية فنجان قهوة ودردشة مع شي حدا... حتى هاد كتير... طب فنجان قهوة مع كتاب....طب شو رأيك تخرسي؟"
 لكنني لا زلت واقفة ولازلت أتقن تمثيلية الحياة بمهارة الزوجة والأم المثالية لذا سأتوقف عن الكلام خشية الانزلاق إلى التفاصيل وسأعود إلى صياغة خطة بديلة للمشروع العملاق أنه في حال فشله فسنذهب إلى المنتزه (حدائق قصر الملك فاروق في الاسكندرية) حيث سأطلق العنان لأشجاني وسأطلق أبنائي يطاردون كل هدهد تلمحه عيونهما الصغيرة، لأن عيونهما الرقيقة تلك ربما تكون في نهاية الأمر قادرة على الرؤية بشكل أوضح وأعمق من العمى الذي حل بي فاستبدلت تعداد بركاتي بدمدمة وتذمر يقودني إليهما جشعي وطمعي في السفر هذا الصيف، صيف 2016 بينما كل ما يطمح إليه هذان الصغيران هو "مشوار ع المنتزه بالأجازة نشوف الهدهد ونركض ونلعب ونعمل picnic ع السجادة بعدين نتغدى بالمطعم".