Sunday, November 25, 2018

الكرسي الخالي


في قلبها كرسيٌّ خالٍ، متناهٍ في الصِغَر، كلّما أغمضَت عينيها وأنصَتَت جيّدًا سمِعَت صوت أنفاس الرضيع النائم في هذا الكرسي.
طالَ انتظارُها له، وعلا بحرُ الدّمعِ الذي يملأ مهدًا صغيرًا لم تشترِه بعد، وكثُرَت المحاولات ومعها كثُرَت مُناجاتُها لطفلٍها: «آه لو تعلم يا حبيبي كم أحتمل وأصبر كلما لمحتُ أُمّا وكلما حملتُ طفلا وكلما دخلت عيادة الطبيب وكلما استلقيت على ظهري لأسابيع طِوال منتظرة نتيجة آخر محاولة طِبية وطريقة زرع مجهرية.
«قل لي يا صغيري، هل أنت قادم؟ إعفِني من عذاب الانتظار، قد يكون اليأس أكثرَ رأفة بي من أملٍ كاذب.»
***
في بيته كرسيٌّ خالٍ، يجلس عليه كلما ضاقت به الدنيا واحتاج أن يشتمّ رائحة الحكمة التي لا تزال تنبعث من خشبٍ عتيقٍ باقٍ حتى بعد رحيل صاحبه. «هل أنا أنانيٌّ يا أبي؟ هل اشتقتُ إليك بصدقٍ أم أنني فقط أفتقد ما كنتُ أحصل عليه من وجودك؟
«يدّعي البعض أن الموتى يسمعوننا إذا خاطبناهم، لكنني أحتاج أن أسمعك أنت، أن أسألك وأستشيرك، أن أعرف رأيك وأختلف معك. لماذا رحلت وتركتني بلا سند؟ الآن عرفتُ ثِقل الحمل الذي كان على أكتافك. اصبحتُ أنا الآن ’كبير الأسرة’ وهم لا يعلمون أني في أعماقي مكسور الظهر، جريح الجناح.»
***
على سُفرتها كرسيٌّ خالٍ، تعتصر مَعِدَتها ألمًا لرؤيته. لا يجد الطعام مكانًا في أحشائها لأنها جائعة طوال الوقت، جائعة لأن تقبّل وجنتيه للمرة الأخيرة، وتهمس في أذنه: «أنا أحبك، وسأظل أحبك حتى آخر نفَسٍ في عمري... عمري الذي لو كان بيدي لأعطيتك إياه ورحلتُ أنا عوضًا عنك.
«أنا آسفة يا ولدي، سامحني لأني ككل الأمهات الثكالى، نادمة على كل مرة حرمتك فيها من أمر أو أجّلته لأن قراري كان لصالحك، يا ليتني كنتُ أعلم...
«سريرك خالٍ في بيتنا، لكنك تنام في قلبي كل ليلة، ومثلما اتحد نبضي بنبضك تسعة شهوروأنت في أحشائي، عاد نبضينا ليتّحدا تسعة دهور وأنت تسكن قلبي وعقلي وفكري وتعشش في كل خلية في كياني... لأني أمك... وسأبقى أمك إلى مدى الأزمان...»
***
في أحلامِها كرسيٌّ خالٍ، تَحِيكُ له كلّ عامٍ غطاءً جديدًا من حرير صفاتٍها، وترصّعه بلآلئ شخصيّتها. تفرش الغطاء على الكرسيّ يوم عيد ميلادها وتتأمله بعدساتٍ من الدموع المنهمرة مع كل "عقبالِك" و "شدّي حيلك" و "نفرح بيكي" سمِعَتها طوال عامٍ آخر مرّ من دونه. وتسأل نفسها: «كم عامًا قادمًا سيشهد عدم وصوله؟ هل يفكر هو فيّ ويستعد للقائي كما أفعل أنا؟ هل أتاني متخفيًا فلم أعرف أنه هو، بل ظننته مجرد "عريس" آخر أو شابٍ "طالِب القرب" وأنا التي رفضتُه وأغلقتً أبواب قلبي وشغّلتُ عقلي أكثر من اللازم؟
«هل حصلتُ أخيرا على ذلك الوشم الذي يراه الجميع على جبين كل من تتأخر في الزواج مع أنها "كاملة الأوصاف" فيغدو عيبها الوحيد أنها "مغرورة" وتتحول الكلمة إلى لافتة تحذير في شارع حياتها كُتب عليها "إحذر الإقتراب". حتى وإن نجَحتُ في نزعِها من على الرصيف، إلا أنني سأفشل حتمًا في نزعها من عقول كل من أقابله في العمل ودور العبادة وأثناء السفَر والتجمعات العائلية واللقاءات الودية.»
***
وسط لياليها كرسيٌّ خالٍ، لا تراه بوضوح إلا في الظلام، بعد انسدال الهدوء، فضجيج منزلِها نهارًا يصُمّ الآذان، وعجيج أفكارها يزيد من علوّ الموج الذي يلطم وجهها فتتعذر الرؤية. لكن الكرسيّ قابعٌ هناك كالسراب، كلما ظنّت أنها اقتربت منه تجده قد استدار وابتعد... تمامًا كما استدار الخاتم وأحاط بإصبعها يوم زفافها، وكما استدار بطنها وتكوّر يوم أصبحت أمًّا، وكما استدارت أيامها كالدوامات مبتلعة أحلامها لنفسها ولمستقبلها. تغتال كلََ كلمة محذوفة من قاموس الأمومة، وتشتكي على أية فكرة كي تعتقلها شرطة مكافحة الأحلام، وتنبذ أي هدف لا ينصبّ في صلب بئر التضحيات الأنثوية لأسرتها.
الـ"أنا" تحوّلَت إلى "نحن"، لا بل تحوّلَت إلى "هم" وفقط هم: «ما هو هدف حياتي غير زوجي وأبنائي وأهلي؟ إنها أسمى الأهداف وأرقى التطلّعات وتتمناها ملايين النساء حول العالم وها أنا متذمّرة.. شاكية.. باكية.. منعدمة الضمير.. قليلة الإمتنان.. ناكرة للجميل...»
***
داخل مرآتها كرسيٌّ خالٍ، لا بل كرسيان، يتمركز كل واحد في سواد بؤبؤ عينيها. لذا كَرِهَت المرايا وتجنّبتْ النظر لانعكاس صورتها أينما كانت. «ما الفائدة يا أمي إن كنتُ أُشبِهُك في ملامحي لكنني أعجز عن أن أشبهَكِ في حياتي؟ لماذا لم تتركي لي دليلا شاملا يشرح بالتفصيل كيف يمكنني أن أكون ولو رُبعَ ما كنتِ أنتِ عليه في حياتك وما يقوله الناس عنك حتى بعد رحيلك؟ أتعلمين يا "ماما"... أسمع هذه الكلمة كل يوم عشرات المرات، نعم لقد أصبحتُ أنا أُمًّا. ومنذ أن حدث هذا وأنا تائهة... أهيم على وجهي في غابة الأمومة، أتخبط في قراراتي وفي تقصيري وعجزي.
«أحتاجك أكثر من أي وقت مضى. فقدتُكِ ... وبفُقدانِكِ فقدتُ بوصِلَتي وملاذي... فقدتُ ذلك الشخصَ الوحيدَ الذي كان سيفتخرُ بي، وسيخاف عليّ، وسينصحني بحنان، ويعاتبني بحب... فقدتُ كل ما هو "غير مشروط" وغدتُ "يتيمة" بكل مافي الكلمة من معنى وألم.»
***
في العيد... كرسي خالٍ... يتمركز حولَه عيدُنا... فإما أن نجتر أحزاننا ونبقى عالقين في حلقة مفرغة لا أمل بالخروج منها طالما أبقينا ذلك الكرسي في المركز... أو أن نتجرأ ونفرح بعد رحيل الغوالي فيباغتنا الذنب كالإرهابي مرتديًا حزامًا ناسفًا لأي فرحة وماسحًا لأي ابتسامة...يعتلي الكرسي الذي في المركز ويشد الزناد ويفجّرنا...

ما أكثرها...
تلك الكراسي الخالية في بلادنا، وفي بيوتنا، وفي حياتنا...
وما أصعبها...
رحلة التعافي والشفاء والتدرب والتعلم والتعثر، كي نصل إلى عيدٍ ما، في سنةٍ ما، يومًا ما ونقرر أن ننزع الكرسي الخالي من المركز وندمجه في خط الدائرة ليأخد مكانه ومكانته في حياتنا لكن دون أن تتمحور بمجملها من حولِه...

يومئذٍ سنسمح لأنفسنا أن نعيّد من جديد، أن نذوق طعم الفرح الذي نسيناه ونسِيَنا، أن تحفر الإبتسامة طريقا جديدا تشقّه بجهد على وجوهنا... رغم الكرسي الخالي...

Wednesday, July 11, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: الكهف

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/الكهف/

تحية إمتنان وشكر لكل الغواصين وعُمّال الإغاثة اللي يومًا ما انتشلونا من الكهف...
كام مرة لقينا حالنا ضايعين جوا كهف... ومنسوب الدموع عم يعلى ويعلى حتى اتحبسنا وما عدنا عارفين نطالع حالنا...
هونيك... جوا... جوا... بالعتم والرطوبة والسكون المشبوه، لما أبسط صوت بيتحول لضجيج مرعب...
هونيك... جوا... جوا... فقدت الاتصال مع الناس وبعِدت لدرجة بطّل فيني أبعت حتى كلمة أو إشارة أو نداء استغاثة ...
هونيك صليت وقلت: يارب... يارب حدا يحس بغيابي ويجي ورايي يدور عليي ويلاقي حذائي ودراجتي ع باب الكهف...

أكيد في ناس كتير مرّوا من جنب باب الكهف... طب ليش ما سألوا عليي؟

يمكن لأنهم فكروني مو محتاجة مساعدة، لأني دخلت بإرادتي، بمزاجي، وكامل قوايي العقلية... والنفسية...

يمكن فكروني أنا مقررة كون لحالي، عم يحترموا خصوصيتي، والوقت الإنفرادي تبعي... وبكل حسن نية، حاشاهم يكونوا متل الكاهن أو اللاوي ولا حتى السامري الصالح، قرروا يكونوا موضوعيين وواقعيين وما بدهم يزعجوني بحشريتهم أو تدخلهم، لهيك تاركينني على رواق...

يمكن فكروا الموضوع مو مستاهل، هي مغارة صغيرة مو كهف، وأنا لسا طفلة، لسا مراهقة، لسا طالبة جامعة، لسا متخرجة جديد... لسّا ولسّا ولسّا... ما شفت شي من الدنيا حتى كون عالقة بكهف ومحتاجة مساعدة... بكّير على هيك هموم... هدول الناس أنضج مني وأكبر مني وشايفين وضعي طبيعي وبسيط، بالعكس، شايفينه ضروري مشان أتعلم دروس رح تفيدني بالمستقبل لما ساعتها بقا يجد الجد... مو هلأ... قايسين كهفي على مقاييسهم وطلع في الموازين إلى فوق... قاسيين عليي بموقفهم وبإنسحابهم ومستخفّين باللي أنا فيه...

يمكن ما فكّروا من أساسه... هني مرّوا مطاطيين راسهم وشافوا حذائي مو لأنهم عم يدوروا على شي ع الأرض، هني كتافهم محنية من كتر الهموم... مرّوا مشغولين بحياتهم ومشاكلهم ودنيتهم... مو ناقصين هَمّ زيادة...

بس في ناس وقفوا... بكل "فصل" من فصول حياتي كان في ناس بتوقف... وبتسأل: هاد حذاء مين؟ أو بتعرف ان هاد حذاء رهام، هل هي بخير يا ترى؟
في ناس خلعت حذاءها احترامًا لقدسية الأرض جوا كهفي... وفاتت ورايي تدور عليي وتنادي إسمي...
في ناس حسوا إني طوّلت بغيابي هالمرة وبعتوا ورايي حدا بيعرف المنطقة، حدا مختص، حدا متمرّن، حدا متواضح رح يوطي راسه عند باب الكهف ويدخل من الطريق الأضيَق والأكرَب...

هدول الناس... في منهم اللي كمّل بحياته وما عدنا كتير على اتصال بس لساتني حاملة البصمة اللي تركها بمرحلة كتير حساسة وحرجة من حياتي أنا، حساسية المرحلة ضاعفت من الاحتياج بهداك الوقت وبالتالي ضاعفت من المفعول الإيجابي ومن عمق بصمته وجمالها... وفي منهم اللي لسا محتاجته بهاد الـ"فصل" الحالي بحياتي، وقد ما كابَرت ورفضت وادّعيت اني مو محتاجته، باسمع صوت صدى أفكاري عم يتردد على حيطان الكهف ويطلب المعونة...

يا ترى شو كهفِك اللي انت علقانه فيه حاليًا؟ هاد هو السؤال. صارلِك كام يوم عم تتفرجي على الأطفال ومدرّبهم بتايلاند وعم تتابعي أخبارهم انت وعم تقولي لحالك: أنا كمان محتاجة حدا يساعدني، يمكن مو لدرجة انه يضحّي بحياته ويموت متل واحد من الغواصين اللي زميله سحبه غايب عن الوعي بآخر رحلة الـ 6 ساعات وهني عم يوصّلوا أوكسيجين للأطفال، وللأسف ما استعاد وعيه وما صحي... بس على الأقل أنا محتاجة غواص يحاول، محتاجه يبعتلي تطمين: أنا شايفِك، أنا مهتم لأمرِك، أنا رح حاول ساعدِك، انتِ مانِك لحالِك، انتِ مهمة وبتستاهلي وقتي واهتمامي وتواجدي معِك... يمكن تكوني محتاجة فريق ويمكن محتاجة صديق، انتِ اللي فيكي تحددي موقعك بالكهف وتستنجدي بفريق إغاثة كامل ومُجهّز أو تتصلي بصديقة تفضفضيلها وتطبطب عليكي...

يمكن يكون السؤال بالنسبة إلك مختلف شوي، ما عم تسألي حالك: "شو كهفي؟"، عم تسألي حالك: "شو دوري؟" يمكن شفتي حذاء، يمكن سمعتي نداء، يمكن إحساسِك من جوا عم يأشّرلِك على حدا معين ويقولِك: فلانة مو على بعضها، يمكن محتاجة مساعدة، يمكن محتاجتِك انتِ تحديدا. حتى لو مانِك حاسة حالِك عندِك هالشي العظيم اللي ممكن تقدميلها اياه، بس اللي أكيد عندِك هو قلب يحب وأدن تسمع وإيد تلمس، هدول كنز لو انحطوا مع بعض بيعملوا مثلث برمودا فيها رفيقتك ترمي جواته همومها فتختفي وتتلاشى... ولو لقيتي ان رفيقتك همومها أكبر من هاد المثلث اللي عندك، فانت عندك شي رابع هي محتاجته، عندك كتف قوي تقدري تحطيه جنب كتفها، ومشاكلها اللي أتقل من انها هي تشيلها لوحدها صرتوا متشاركين بشيلتها... ونياله كل مين عنده كتف جنب كتفه يشيل معه مسافة، طالت أو قصرت، على طول هالدرب...



بدون تعليق: أول مرة باكتب مقال بسلسلة "مذكرات زوجة قسيس شابة" مو بالفصحى، ما فيني قول اني اخترت العامية (السوري) بقرار واعي، الحقيقة ان هي اللي اختارتني وهيك كان المقال مكتوب براسي وهيك طلع، طبعا كان فيني "ترجمه" بس خليته متل ما هو.

وأول مرة بحط صورة مو أنا اللي مصورتها، لهيك مافي عليها توقيعي لأنها لا تصويري ولا رسمي أنا. هي فنانة (مو أكيد، يمكن تطلع صبي) رسمت عمليات الإغاثة في لوحة رائعة فيها مجموعة حيوانات كل واحد منهم رمز لشخص أو مجموعة أشخاص، والرجل الحديدي هو الملياردير إيلون مَسك.
فرق الإغاثة بحسب جنسياتهم كانوا كالآتي: الأسد فريق الإغاثة البريطاني، الكنجر هو الأسترالي، الباندا هو الصيني، النسر هو الأميركي... الخ / الضفادع رمز كل الغواصين / التنين رمز للمهندسين وعمال الحفريات ومضخات تفريغ المياه / الطيور رمز الميديا...

Thursday, March 8, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: البطلة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/البطلة/

المشهد الأخير... تنقله إليكم الشاشات بنقاء عالٍ HD  لتعيشوا الحدث لحظة بلحظة...
عندما تسقط البطلة... رحلة الأسيرة الأخيرة... ساعات ما قبل الإعدام...


دعوني في البدء أقترح عنوانا بديلا للمقال قد يجده البعض مناسباً أكثر:
مذكرات زوجة قسيس كافرة
/اليسوعة/

اختيار هذا التاريخ على وجه التحديد لتنفيذ حكم الإعدام في اليوم العالمي للمرأة، له دلالات عدة، أهمها أن تكون هذه "البطلة" عبرة لمن اعتبر، فيشهد الثامن من آذار/مارس 2018 نجاح حملة "كم الأفواه" لبثّ الرعب في نفوس كل الإناث اللواتي تسوّغ لهن أنفسهن – وألسنتهن وحساباتهن الإلكترونية – على التفوه بالحقيقة، وبالتالي يمتنعن عن ذلك...

تُثار التساؤلات كغيمة غبار تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي:
هل حقاً وقعَت البطلة في الأسر؟
أم أنها هي التي سلّمت نفسها طواعية للسلطات... الغير معنية؟
هل يحق للأبطال الإستسلام؟

يمشي شريط الأسئلة أسفل الشاشة ليقرأه المشاهدون وهم يتابعون البث المباشر.
لا تخلو الجماهير من زمرة قليلة جُلّ ما يعنيها هو كون الأسيرة امرأة هذه المرة ولا بد للثياب الممزقة من أن تكشف عن أنوثة تلعقها عيونهم الجرباء، لكن نسبة كبيرة من المتفرجين يرون الأكبال وكأنها أساور وخلاخيل تجمّل الأسيرة وتزين معصميها ورسغيها، والبقية الباقية هم الأغلبية الواقعية التي تتأمل لون الحديد الصدىء تنساب من فوقه دماء طازجة بأحمرها اللامع في عز شمس الظهيرة...
صوت قرقعة السلاسل بإيقاع سير الأسيرة البطيء يتردد صداه عبر فضاءات السوشال ميديا مرفقاً بهاشتاج #أيقونة_الحقيقة بهدف السخرية من البطلة إسوة بهاشتاج عمره آلاف السنين #ملك_اليهود، فقد عجز الجنود الرومان آنذاك، وسجّاني الفكر في يومنا هذا عن إدراك نفور البطل (أي بطل) من الألقاب، بما فيها لقب البطل/البطلة. لكنها الخدعة التسويقية التي تساعد في تكاثر أعداد المتابعين وتزيد سرعة انتشار الخبر كالنار في الهشيم وتدفع بالعيون المذعورة والأصابع المرتجفة إلى الضغط على المثلث المائل فيبدأ تشغيل الفيديو لنقرأ في مُستهلّه جملة تحذيرية: "هذا الفيديو يحتوي على مشاهد عنف لا تناسب أصحاب القلوب الحساسة"... جملة لن تُثني أحداً عن المشاهدة، فالإنسان بطبعه مخلوق فضولي، سيضاعف فضولَه استخدام كلمة "بطلة" ويا حبذا لو صاحبتها كلمة صادمة لتكوين عنوان رنان: "سقوط البطلة"...

كتعطش مصاصي الدماء لغرز أنيابهم في جسم الضحية، يغرز الفضوليون أنوفهم ليشتمّوا الرائحة اللاذعة لما أسموه "فضيحة"... بينما في مكان آخر... في عُلّيات مُغلّقة، تجتمع الركب والأسنان المصطكّة رعباً، حيث أحكمَت التلميذات المختبئات إقفال الأبواب والشبابيك خوفاً من تعرضهن للإعتقال وتلقّي ذات المصير...

التهمة: سؤال
نَصّه: ماذا لو تجسد الله في جسم إنسان أنثى؟

كانت الصياغة الاولية لهذا السؤال نابعة من عفوية وبراءة تفكير ابنتي بُعَيد عيد ميلادها السادس: "هو ليه يا ماما في يسوع ومفيش يسوعة؟" عجزتُ يومها عن الرد، إلا أن الفكرة سكنتني كالمرض العضال الذي تظهر أعراضه بصورة تساؤلات وتهيؤات تعاودني كلما وجدَت لنفسها شرارة جديدة كأن أنظر إلى السماء فأرى الغيوم وقد اصطفت ليكتب بياضها: #Me_Too  إلهي حي، ويقول لي أنه يشعر بي...

هل هذه حقيقة؟ أم أنها وهمٌ تمنّيته بالشدة الكافية إلى أن تحول إلى حقيقة؟
إذا كان يسوع الإنسان قد عاش ذكراً في الجسد، فكيف يمكنه أن يفهمني أنا الإنسان الأنثى في الجسد؟
هل حقاً أنه يشعر بي، وأنا بداخل جسم امرأة؟
هل يتّحد معي في إنسانيتي، في جسدي، ليس كخالقه بل كمرتديه وساكنه؟
هل يلبس جلدي في نعليه ويمشي به ميلاً، طواعية، دون أن يسخّره أحد؟
هل سار فعلا على الأرض مثلي؟ أنثى في شارع ذكوري...
هل حمل عاري؟ عار أنثى، معيوبة لمجرد كونها أنثى، وكأن الأمر بيدها، صوتها عورة، وكينونتها عيب العيب...
هل ذاق طعم مخاوفي؟ مخاوف أنثى تنتفض عندما تنقضّ عليها المخاوف كالضباع...

هل كان جسده الذكوري كجسدي؟ يمكنه أن يحتوي نار الحب دون أن يكتوي بها... يمكنه أن يتلوّى من الألم بداخله دون أن يعتلي وجهَه أي تعبير... يمكنه أن يحبل ويلد ويُرضع أفكاراً كنسل إبراهيم بعدد رمل البحر ونجوم السماء... يمكنه أن يسقي سنيّ عمره دمعاً وقطرات عرق نازلة كالدماء مع آخر كل نهار ومع مطلع كل فجر يختم ليلة طار نومها... يمكنه أن يحيك مشاعره شبكة تسافرعبرها الأحاسيس بسرعة الضوء فتزيد زينتها جمالاً وتقعيداً وتحولها إلى فخ يصطادني ويوقعني فريسة في شرك المشاعر المتشابكة المعقدة...

ماذا لو كان الله قد اختار في ملء الزمان أن يتجسد في صورة ذكر لكنه عبر العصور والأزمنة يختار مراراً وتكراراً إناثاً ليشرّفهن بأن تتجسد أفكاره وحبه وحقه وحريته وحضوره من خلالهن؟ يدعوهن ليعرفن الحق والحق سيحررهن... يعرفن الحق ويعشن الحقيقة...

دفعَت بي سذاجتي في بادئ الأمر إلى أن أتفوه بالحقيقة علانية وأفضح أكاذيب طالما سكتنا وتعامينا عنها وتناقلناها عبر الأجيال... رفعتُ صوتي إسوة بإناث أخريات فعلن هذا في مجتمع ولغة مختلفين، بينما كنت أتخيل مشهداً سعيداً للحرية تهبط كأسراب الحمام تحطّ كل حمامة منها على كتف إحدى الإناث "البطلات"، وعند وصول حرّيتي أنا سمعتُ الصوت المنتظَر: "هذه ابنتي الحبيبة التي بها سررت."

لكن تخيلاتي اصطدمت بالواقع الزمني والمجتمعي الذي أعيشه وإذا به يعيدني إلى مشهد الإعدام حيث سُلّطَت مكبرات الصوت على أفكاري وفاجأني سماعها:

"أنا لستُ بطلة... لم أُرِد يوما أن أكون بطلة، لم يُغرِني الوشاح الخارق والشعار الخاص والإسم الحركي وأضواء الشهرة... فالأبطال دائماً يدفعون الثمن، فقط في أفلام الرسوم المتحركة نرى النهاية السعيدة للبطولات مع خاتمة الفيلم حيث تنكشف الأكاذيب ويعلو صوت الحقيقة ويعيش الجميع في سعادة وهناء...

ماذا لو أمكنني تقاسم العذاب مع أخريات، هل سيقل نصيبي من الجرعة؟
ماذا لو تم الإعدام بسرعة، رمياً برصاصة رحمة؟
ماذا لو ولِدتُ في عصر مستقبليّ، كان جلّادوه أكثر رفقاً؟"

عندما أدركتُ أن الملايين قادرون على سماع أفكاري، نظرتُ إلى الشاشة العملاقة وقد كتب أسفلها: "الكلمات الأخيرة للأسيرة" فسمعت صوتاً ما في داخلي أقرب إلى الأنين منه إلى الكلام العادي، وقبل أن أتمكن من تمييز الجملة، قرأتها مكتوبة على الشاشة:
"يا أبتاه، إن أمكن، أن تعبر عني هذه الكأس..."


بدون تعليق: هذه القصة من نسج الخيال، وأي تشابه بينها وبين الواقع هو محض صدفة لا أكثر... أما بالنسبة للصغيرات اللواتي يراقبننا ويريننا "بطلات" في عيونهن... فليس في جعبتي نصائح حكمة أسديها إليهن في الوقت الحالي... فأنا لازلت أدفع أثماناً باهظة... على أمل أن أتمّ المهمة قبل أن تكبر الصغيرات كيلا أورّثهن ديونا لا قدرة لهن على سدادها...

Sunday, January 14, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: المكنسة

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/المكنسَة/

اكتشفتُ بالصدفة البحتة أن حلول عام 2018 يعني مرور 45 سنة على رائعة فيروز "إيماني ساطع" أغنية أشبه بالترتيلة حيث تقول كلمات الأخوين الرحباني:


مهما اتأخر جايي / ما بيضيع اللي جايي / ع غفلة بيوصل من قلب الضو / من خلف الغيم / ما حدا بيعرف هاللي جايي / كيف يبقى جايي

تطالعك الأسطر الأولى من هذه الأغنية بمصاحبة لحن أشبه بتفتح وردة مع شروق الشمس، تتمطى ساقُها مُرحبة بأشعة طال انتظارُها خلال الليل وتتوالى رقصات البتلات وهي تفرد جسمها على غير استحياء مع كل نوتة موسيقية بعذوبة ندى الصباح. وفجأة...

إيماني ساطع يا بحر الليل / إيماني الشمس المدى والليل / ما بيتكسر إيماني / ولا بيتعب إيماني / إنت اللي ما بتنساني

مالذي حصل؟ مع أن نغمات البيانو لا تزال تلوّن الخلفية برِقّة إلا أن اللحن بحد ذاته قد تحول إلى مارش عسكري مبطّن، فأراني أغني كالجندية بوقفتها المنتصبة وقد ارتديت زيّا حربيّا، ينعكس بريق الشمس في لمعان قبعتي، أرفع يدي كمن يؤدي القسم الكانونيّ (نسبة للتسمية السريانية لشهر كانون الثاني – يناير) على خشبة المسرح مع بداية عام جديد أتلو فيه نوعاً من أنواع الـ  statement of faith ليس عن حفظ وتكرار فارغ بل عن اختبار مُعاش في السنين الطويلة التي مضت... والرب معتني بي، وكل يوم محمولة... ع الأذرع الأبدية.

أنا إيماني الفرح الوسيع / من خلف العواصف جايي ربيع / إزا كِبرِت أحزاني / نسيني العمر التاني / انت اللي ما بتنساني

"كزّابة" ... تصرخ إحدى الحاضرات واقفة بين صفوف المتفرجين وتتقدم بخطاها نحوي كما فعل ذلك الشاب في الدقيقة 1:08 من كانتاتا الميلاد بالكنيسة الإنجيلية الثانية بأسيوط مقاطعاً القراءة الكتابية. فأسألها مقتبسة كلمات الدكتور ماجد عزمي: "مالِك، في إيه؟"
وتجيب المشاغِبة: "مافي شي، بس عم قلِك انك انتِ واحدة كزابة! عن أي إيمان عم تحكي وتغني؟"

تداعبني فكرة الإنهاء السريع للموقف وإجهاض هذا العرض المسرحي الساخر. بإشارة مني سيتم إطفاء الأنوار وإسدال الستار لأَخرج متنكرة في زي عامل نظافة أحمل مكنستي مخاطبة القراء: "شو مستنيين؟ خلّصنا خلاص، كل واحد يشوف شغله، بدنا نشطف (عايزين نرش مية)" فأفُضّ التجمهر وأنفُضُ الإحراج... بمكنستي.

لكن الحقيقة أن أُختَنا المشاغبة تلك على حق. فكلمات الأغنية الفيروزية رغم لين موسيقاها إلا أنها تمتلك أكثر من نصل حاد يقطع الشك باليقين، يقين أن إيماني في الحقيقة متكسّر ومتعَب، لا بل متهشّم ومتهالِك. تلك هي حالة "إيماني"، الآن وهنا، ليس إيماني على امتدات السنين وإنما إيماني تحديدا في هذه الحقبة من حياتي. في حقبة من الانتظارات الجديدة كما كتبتُ عنها في مقال "الإنتظار" وكما تكلم عنها عنوان وفحوى الكانتاتا يوم الأحد الماضي.

كيف أجرؤ إذا على ترداد هذه الترتيلة، ذاكرةً كلماتٍ كالفرح والسعة والربيع بينما يغُصّ قلبي بالدموع وتختنق كلماتي طلباً للأوكسيجين على رؤوس أصابعي المتجمدة؟

"أؤمن وأعترف"، كان هذا عنوان الصلاة التي كنا نتلوها في مدرستي "راهبات المعونة الخاصة للبنات" بدمشق قبل  التقدم لممارسة سر المناولة (فريضة العشاء الرباني) وها أنا أستخدم العنوان ذاته لكن لتلاوة صلاة هي صلاتي غير "الكاذبة" مع مطلع عام جديد، صلاة المكنسة، فمع كل إقرار إيمان هناك كَنْسةُ اعترافٍ أصرِفُ بها كلَّ ما يقف حائلاً دون تحوّلِ إقراراتي النظرية تلك إلى واقعٍ يوميٍ مُعاش.

-         أؤمن وأعترف -
أؤمن يارب بأنك الله الخالق، وأنك قد خلقتني على صورتك ومثالك..
وأعترف بأنني خلقتك على مقاسي وحشرتك داخل محدوديتي..
أؤمن بأنك صالح وأن أفكارك نحوي أفكار خير..
وأعترف بأنني لازلت أرفع قبضتي الغاضبة إلى السماء عالياً وأعترض على صلاحك لأني عاجزة عن فهمه..
أؤمن بأن مستقبلي مضمون فيك..
وأعترف بأنني غارقةٌ حتى أذنيّ ببحرٍ من الشكك والتساؤلات والتمرد والتهكمات..
أؤمن بأن أشواق قلبي مُحققة في شخصك..
وأعترف بأنني أشتهي ما هو ليس لي، وليس لخيري، وليس بحسب قصدك لحياتي..
أؤمن بأنك روح وبأنني بالروح و الحق ينبغي أن أسجدَ لك..
وأعترف بأنني أريدك جسداً كي أضع إصبعي في أثر المسامير وأسنِد رأسي على صدرك وأبتدعَ سبعَ حواسٍ جديدة كي أمتلك دزينة منها فبدل أن أتمتعَ بك، أستخدمك لإشباع رغباتي واحتياجاتي الخاصة بطريقتي أنا بعيدا عن طبيعتك وكينونتك أنت..
أؤمن بأنك مصدر كل حكمة وفهم..
وأعترف بأن خلايا دماغي التي سبكَتْها يداك قد وصل بها الجبروت لأن تدّعي تفوُقَها عليك ..
أؤمن بأنك كُليّ الوجود..
وأعترف بأنني وحيدة، وأنك قد نسيتني، فلا أشعر بقُربِك، ولا أُدرك بأنك تلفّني بحضورك حولي وفي داخلي ومن خلالي..

...تتكاثف تدريجياً غمامة الغبار الناتج عن عملية الكنس يرافقها هيستيريا من الدموع والسعال فأٌقرر التوقف عند هذا الحد. أسند ذراع مكنستي على الحائط وأجلس القرفصاء بجوارها متخذة قسطاً من الراحة... ولكن إلى حين...


بدون تعليق: ولازلت في 2018 أستمتع بالأعمال المنزلية كالكنس والطبخ والتنظيف مع كرهي الأزلي الأبدي لأمرين أمقتهما وبشدة: الأول أن هذه المهام by default مفروضة عليّ ومتوَقَعة مني لمجرّد أن الله خلقني أنثى!!! مين اللي قال؟ والثاني أنها مهام تدور في دائرة مفرغة عقيمة تستنزف لا طاقتي ووقتي فقط بل عمري كله... البيت لما بانضفه بيتوسخ، والغسيل لما باخلصه بينلبس، والأكل لما باعمله بيتاكل... طب وبعدين؟ أما من مُنقِذ؟

Tuesday, January 2, 2018

مذكرات زوجة قسيس شابة: التجسّد

قُصاصات وقِصص ومجازفة وأمل. ها هي بين أيديكم أعزائي القُرّاء أشارككم بها، قصاصاتٍ من دفتر مذكراتي فيها قصصٌ من رحلة أشبه بمغامرات الخيال فقد قبلتُ المجازفة بأن تخرج تلك الكلمات لترى النور وكلي أمل بأن تتحول ما بيننا السطورُ إلى جسورٍ طمعاً بحفنة صداقات وفيض بركات والمزيد من المحبة أبداً.

مذكرات زوجة قسيس شابة
/التجسُّد/

ماما: "ما ينفعش يا رهام تكتبي "تجسّد خوفي" في المقالة، لأن المسيح وحده اللي اتجسد."
أنا: "ده صحيح ان الله المتجسد كان في شخص المسيح بس، لكن فعل التجسّد بينطبق على أشخاص ومشاعر وحالات... الخ"
ماما: "لأ، احنا في إيماننا المسيحي بنؤمن ان التجسّد كان ليسوع بس، وما ينفعش يتقال على أي حاجة أو حد تاني انه اتجسد. قولي "ظهر خوفي"، مثلا."
أنا: "باختلف مع حضرتك لأن اللغة العربية كانت موجودة قبل المسيحية، والفعل نفسه نقدر نستخدمه لغوياّ، لكن لو كلامنا لاهوتي بخصوص التجسد الإلهي فهو كان حصري من خلال يسوع المسيح."

كان هذا جزءا من نقاش طويل دار بيني وبين ماما في مكالمة هاتفية، لم تكن أمي البيولوجية، وإنما هي ماما لمئات، بل وأجرؤ على القول آلاف، الشابات والسيدات خلال سنوات خدمتها الطوال كزوجة قسيس مباركة أكنّ لها فائق المحبة والاحترام، حتى وإن كنت أختلف معها في وجهة النظر اللغوية-اللاهوتية فيما يخص استخدامي لكلمة "تجسّد" وتوظيفي لها في إحدى مقالاتي منذ أعوام.

مع مطلع عام 2018 اخترتُ لنفسي شعاراً أتبناه خلال السنة الجديدة وهو مبنيّ على مقولة استوقفَتني منذ مدة ورافقتني لأشهُر طِوال مع مقولات أخرى، إلا أن هذه الحكمة على وجه التحديد أبَتْ إلا أن تعاوِدَني مِرارا وتكرارا في مواقف عدة كنت خلالها بأمس الحاجة إليها:

“Be who you needed when you were younger.”
"كُن الشخصَ الذي احتجتَ إليهِ وأنت أصغرُ سِنّاً."

لازلتُ أذكر عندما قرأت هذه الجملة للمرة الأولى كم من الوقت استغرقتُ في محاولة استيعابها والغوص في معانيها. فقد كانت بالنسبة لي بمثابة السدّ الذي انفتح فأفرج عن مياهٍ متدفقة لم أكن أعي وجودها مُخزّنةً خلفَه. وبدأَتْ تتلاحق الصور في ذهني مع محاولاتي لِلّحاقِ بكثافتها وسرعة جريانها، فما كان بي إلا أن سارعتُ في تصنيفها وترتيبها وفقاً لجدولٍ يحفظ التسلسل الزمني لظهور تلك الأحداث والشخصيات والمواقف في حياتي في الماضي القريب والبعيد.

من ضمن تلك الشخصيات التي استرجَعَها ذهني خانةٌ كاملةٌ مَعنيّةٌ بتسميةِ ودورِ وقالَبِ "زوجة القسيس"، حيث عاد بي الزمن إلى سنوات مدارس الأحد وزوجة الراعي في كنيستي بدمشق آنذاك وكيف كنت أراها وما الذي كنت أراقبُه فيها وأتوقعُه منها وأنا أرفع رأسي لأنظر إليها بقامتي الصغيرة.
مرحلة المراهقة خرجَتْ من الحسبان لأنني كنت خلالها مشغولة بمراقبة إبنة القسيس أكثر من زوجته، وكانت هي تكبرني بعام واحد فقط، لكن في المرحلة الجامعية تبلورَتْ أكثر صورة ُزوجة القسيس في ذهني حيث كنا، ولا زلنا، في سينودس سوريا ولبنان نخاطب زوجة القسيس بلقب "قسيسة" إدراكاً واعترافاً مِنّا بثِقَلِ المسؤولية المُلقاة على عاتِقِها داخل الخدمة وخارجها على حد سواء.
تزامن حصولي على شهادة الدراسة الثانوية عام 1996 وبدء دراستي الجامعية مع عدة أسفار لبلاد ومدن مختلفة تعرفتُ فيها على زوجات قسوسٍ من شتّى الطوائف والجنسيات ابتداء من بيروت، وديترويت، وأتلانتا، وإدنبرة، وجلاسكو، وأوهايو، ولندن، ونيويورك، حيث وإن تنوّعَتْ أسباب السفر وظروفه إلا أن ما كان يوحّدُها كلّها في هذه المدن الثماني هو حضور الكنيسة صباح أيام الآحاد. حيث كنت أختبر غِنى الاختلاف في أشكال العبادة والترنيم والصلاة في كنائس عِدّة، وأتعرف إلى رعاتها وزوجاتهم لتقتصر المعرفة على سلام وكلام بُعَيدَ الاجتماع أو تمتدّ تلك المعرفة إلى وجبة غداءٍ أو قضاء يوم بصحبة أسرة الراعي المهتمة بالتعرف بفتاة مسيحية إنجيلية سوريّة تُمثل بالنسبة إليهم نافذةً لحياة فتياتِ الشرق الأوسط في زمنِ ما قبل الانترنت والعولمة.

Fast forward 10 years
وتمر سنواتٌ عشر لم أكن أعلم خلالها أني سأخضعُ أنا نفسي لذلك الميكروسكوب الإنترناشنال الذي صنعَتْهُ يداي وكنتُ به أراقب كل أولئك "القسيسات" اللاتي خضعن لفحصٍ وتمحيصٍ وتدقيقٍ لا يخلو من إجحافِ وقسوةِ عينِيَ الساعيةَ إلى الكمال. ومع انقضاء سنة تلو الأخرى باتَ لسانُ حالي أشبهَ بالترنيمةِ الميلادية التي أعشقها:
“Mary Did You Know”
حيث قمتُ بالتعديل اللازم:
“Riham Did You Know?”
واستعنتُ بالترجمة العربية البديعة: "هل كُنتِ تعلمين؟"

هل كُنتِ تعلمين أنكِ ستتزوجين من طالبٍ بكلية اللاهوت سيُرتَسَمُ قِسيساً قُبَيلَ عيدِ زواجكُما الثاني بقليل؟
هل كُنتِ تعلمين أنكِ ستختبرين أصنافاً وأشكالاً وأنواعاً من الغُربة لم تقرأي عنها في رواياتك وكتبك المُحبّبة ولا شاهدْتِها في الأفلام الرومنسية أو أفلام الخيال العلمي؟
هل كُنتِ تعلمين أنكِ ستقومين بتربية "ابن قسيس" و "ابنة قسيس" مع كل التحديات التي يحملُها ذلك اللقب بين طيّاته؟
هل كُنتِ تعلمين أن صديقاتِ ابنك وابنتك سيغمُرنَكِ بكل المحبة الطفولية الأنثوية التي يمكنُكِ أن تتخيّليها أو تتمنّيها أو تصدّقيها أو حتى تحتمليها؟
هل كُنتِ تعلمين أن شاباتٍ من كنيستك ومن كنائسَ أُخرى سيلجأنَ إليكِ طلباً للمشورة والحكمة لأنهنّ يرَيْنَ فيكِ سيدةً وصديقةً وأختاً كبرى تتمتّعُ بالنّضوجِ والكِتمان الذي يحتَجْنَ إليهِ ليُفضيْنَ إليكِ بأسرارهِنّ فتصطَكّ عظامُكِ خوفاً ورهبةً من عَظَمة المسؤولية؟
هل كُنتِ تعلمين أنه من أحشائكِ سيخرجُ مسيحٌ مُخلّصٌ مادّاً ذراعيهِ ليحتضِنَ صديقةً تئِنّ، ذارفاً دموعَهُ هو من مآقيكِ أنتِ، فتراها هي وتتعزى؟
هل كُنتِ تعلمين أن صديقة أخرى لن تجد أحداً يشاركُها فرحتَها دونَ غيرةٍ أو حسد أو ضغينة سواكِ، فتستبقُ مشاركة الخبر السار بأن تزفّهُ لكِ أنتِ أولاً فيتقافزَ قلبُكِ سعادةً في ضلوعِكِ بكُلّ عفوية وكأنّ الخبرَ يعنيكِ أنتِ؟
هل كُنتِ تعلمين أنك ستُجسّدينَ كلّ هذه الأدوار وغيرها من المسؤوليات والشخصيات التي يحتاجُها من حَولُكِ ليس كاحتياجهم للرفاهيات، وإنما لأنكِ أنتِ، بدرجة أو بأخرى، "فارقة" كل الفرق في حياتهم؟

هل تعلمين؟
سؤالي الأخير هذا موجّهٌ إليكِ عزيزتي القارئة، وإليك عزيزي القارئ. فأنت أدرى الناس بظروفك ومحيطك وحياتك السرية والعلنية.

مع اقتراب احتفالنا بمولد المخلص يوم 7 يناير/كانون الثاني بحسب التقويم القبطي، وخلال هذه الأيام من فصل المجيء أو ما يسمى بالـ Advent  أو The Advent Season  تُلِحُّ عليّ هذه الأسئلة والتساؤلات، فأبحثُ لها عن أجوبة في تأملاتي وقراءاتي وصلواتي. لن أدّعي أني توصّلتُ إلى إجاباتٍ شافية وافية، ففي أغلبِ الأحيان قد لا تكونُ الإجاباتُ هي المهمة، بل الأهم منها هي الأسئلة. حتى وإن لم نجد الجواب الصحيح، علينا أن نبحث عن السؤال الصحيح.

ما هو فعل "التجسّد"؟ وما الذي يعنيه لي أنا شخصياً أن يتغيرَ معنى هذا الفِعلُ من جذورِهِ لمُجرّد أن يرتضِيَهُ الله على نفسه، لأجلي أنا. وكيف يُمكنُني أنا أيضاً أن أكونَ مريم العذراء؟ ليس من باب التضامن والتفهّم "كُلُّنا مريمُ العذراء"، الأمرُ الذي عَهِدناهُ مؤخراً على شبكات التواصل الاجتماعي. بل أن نكون "كلُّنا مريمَ العذراء" بشكلٍ فردي. أن تكون أحشاؤنا من العُذريّة بمكان لأن يتجسّد منها الله ويولدَ في حياة مَن حولنا ليخلصهم من وحدتِهم وحيرَتِهم وتخبُّطهم. أن نعود إلى مقاعد مدارس الأحد الخشبيّة ونصلّي صلاة الأطفال في كل ميلاد: "تعال يا يسوع لتولَدَ في قلبي." ومن ثمّ نقفَ وقفة الكبار ونَعِي أعماق هذه الحقيقة وعَظَمة المسؤولية ورهبة التكليف والتشريف، كيما بعدها نركعَ على إثر ذلك ركوعَ العذراء مريم ونَخضعَ قائلين: "ليَكُن لي كَقولِكَ." فنعيش عامنا الجديد بفعل متجدد للتجسُّد، نُجسِّدُ ذلك الشخص الذي احتجنا إليه عنما كُنا أصغرَ سناً، ويكون عام 2018 عام التجسُّد المتجدِّدِ فينا وبنا ومن خلالنا.




بدون تعليق: هذه شجرة الميلاد في ساحة Rockefeller Center  الشهيرة في نيويورك خلال موسم المجيء في ديسمبر 2017. ويعود الفضل إلى أربعة أشخاص لولاهم لما كنت التقطتُ هذه الصورة أو عرفتُ أن هناك دائماً أملٌ في تذوق لحظات من السعادة المُقطّرة حتى وإن طال الانتظار... شكراً وشكراً وشكراً وشكراً... انتوا بتعرفوا حالكم... وشكراً لشخصين صغيرين تحمّلا غيابي عنهما لأول مرة ولمدة طويلة نسبياً...